اتفاقية سايكس بيكو في العام 1916 كانت الطلقة القاتلة لإمكانية قيام دولة عربية واسعة تضم الخليج والعراق وبلاد الشام، والتي كانت في معظمها تابعة لولاية الإمبراطورية العثمانية التي سقطت في الحرب العالمية الأولى.
تقسيم المنطقة إلى دول تسيطر كل من فرنسا وبريطانيا عليها ضمن هذا الاتفاق أدى فيما بعد إلى نشوء الدولة الوطنية. وإن اختلفت الأنظمة السياسية العربية بين الملكي والجمهوري وغير ذلك، إلاّ أن هذه الدولة حاولت بكل الوسائل الإبقاء على مقومات صمودها من خلال أنظمة شمولية ديكتاتورية، لم تتمكن من رؤية أكثر من مصالحها الذاتية، ما أدى في البدايات، خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي إلى قيام كثير من الانقلابات العسكرية أو التمرد العسكري، على قاعدة أن من يحكم هم العسكر في هذه الدول، حتى وصل الحد إلى مجازر دموية كما حصل للعائلة المالكة في العراق أو للنظام الجمهوري بعد ذلك.
المشكلة الرئيسية للنظام السياسي في الدولة الوطنية أنه لم يعترف بالديمقراطية، ولم يعمل على تهيئة المجتمع ولو بالحد الأدنى للسير في النهج الديمقراطي، لأن ذلك كان يمثل خطراً على وجود النظام، وهذه الخطيئة أدت في النهاية إلى دفع ثمن باهظ، تحمّلته الشعوب قبل انهيار بعض هذه الأنظمة.
الخطيئة الثانية كانت في عدم اعتراف النظام السياسي العربي بمكونات الدولة الإثنية.. وحاول بكل الوسائل تجاهل وجود قوميات وإثنيات في إطار الدولة الوطنية، وإن حاولت هذه القوميات التحدث عن مطالبها، كانت تواجَه بالعنف وبالقضاء على أي تحرك في هذا الاتجاه وهو في مهده.
في ظل هذه الأوضاع لم نر الدورَ الفاعل للنخب العربية في الدولة الوطنية سوى الاقتراب من النظام السياسي، ومحاولة الحصول على إرضائه بهدف تحقيق مصالحها، ولذلك لم تساهم غالبيةُ هذه النخب في إحداث حراك حقيقي في المجتمعات العربية على قاعدة التغيير الهادئ أو التغيير التراكمي، بل صمتت حتى على عمليات القمع والتسلط للنظام السياسي بحق معارضيه، علماً بأن كل الأنظمة السياسية العربية في الدول الوطنية استخدمت سياسة العصا والجزرة.
ومعظم هذه الأنظمة حتى الجمهورية تحولت إلى "ملكيات" دائمة وإن استخدمت مسميات غير الملك أو السلطان أو الأمير.
خلال السنوات الماضية وصلت التناقضات داخل الدولة الوطنية حد الانفجار، وهذا ما بدأته ثورات الربيع العربي، التي وللأسف، سارت بمنحى آخر لا يقل خطورة عن الوضع السابق من خلال سيطرة أحزاب دينية على مجريات الوضع، وفي ذلك إنتاج ديكتاتورية من نوع جديد.
ولكن ما يحصل اليوم في المنطقة العربية ابتداءً من اليمن وليس انتهاءً بليبيا وتونس وسورية المدمرة والعراق شبه المقسّمة ومصر، وتشابك التناقضات فيها بين مؤيدي الديمقراطية ومؤيدي النظام السابق، ثم التناقض المذهبي بين السنّة والشيعة والتناقض الأخطر بين التكفيريين وقلة من العلمانيين، يؤكد على أن إعادة تشكيل خارطة المنطقة، أو يؤكد انتهاء حقبة سايكس ـ بيكو بمفهومها الجيوسياسي إلى حقبة جديدة أقل ما فيها انهيار الأنظمة الشمولية بالمفهوم الذي ساد خلال العقود الماضية.
أما حديث البعض عن نظريات المؤامرة وغير ذلك من خلال تأكيد وجهة نظرهم من خلال المواجهات والحروب الأهلية في المنطقة، والظهور المفاجئ لتنظيم "داعش" وتمددها السريع في سورية والعراق، وسيطرة الحوثيين في اليمن، وفرض معادلات جديدة لتقسيم المقسّم من دول المنطقة فإن هذا الحديث، يحاول الابتعاد قليلاً عن حقيقة المخاض الذي تمر فيه المنطقة العربية، والذي بحده الأدنى في النهاية سيؤدي إلى إنتاج وعي ديمقراطي، وعي يؤكد أن كل الحركات التي استخدمت الدينَ للحكم فشلت.. بل تسببت في بعض الأحيان بنظرة سلبية إلى مفاهيمها الدينية.
سايكس ـ بيكو على صفيح ملتهب، والفوضى الواسعة في كل المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية، لا بد من أن تعيد إنتاج نظام سياسي مختلف تماماً، وقادر على النهوض من جديد بمفاهيم كان يجب السيرُ عليها منذ سنوات طويلة، مفاهيم تؤسس لديمقراطيات، ولتعددية، ولبوتقة تجمع كل الأطياف الدينية والعرقية والسياسية، وهذا هو المستقبل الذي من خلاله فقط يمكن للمنطقة العربية أن تكون ذات تأثير.
[email protected]
أضف تعليق