مريم فخرالدين في غيبوبة، ردحٌ من ذاكرتنا السينمائية في غيبوبة. لحظاتٌ مضيئة من زمن يوصَف بأنه كان جميلاً، لعله استحق صفته تلك من صنّاع جماله التاركين إرثاً إبداعياً مهدداً، للأسف، بالتلاشي والضياع ليس بفعل «كوما» مرضية وإنما بفعل «كوما» فكرية وثقافية أصابت مجتمعاتنا ونتج عنها ما يشبه ألزهايمر جماعياً في حفلة جنون وحشية تجتاح بلادنا جارفة معها الكثير من أثر ماض تليد لا نأخذ منه إلا ما يعيدنا قروناً الى الوراء، ثم نقف على أطلاله نادبين باكين حتى صح فينا قول أبي نواس: قلْ لمن يبكي على رسم دَرَس واقفاً ما ضرَّ لو كان جلس.

الممثلة المولودة لأب مصري وأم مجرية حاصرها جمالها ومظهرها الحالم بأدوار الفتاة الرومانسية الطيبة حتى لقبها البعض بـ «ملاك الشاشة»، ولئن كان جانب من نمطية أدوارها يتعلق بالمنتجين والمخرجين الذين أوكلوا اليها على الدوام تلك الأدوار، فإن الأم يتعلق بها أيضاً لكونها لم تبذل جهداً كافياً لكسر الاطار النمطي والتمرد عليه كما فعلت زميلات لها، رغم مشاركتها في أكثر من 240 فيلماً سينمائياً بينها أفلام مثل «حكاية حُبّ»، «رُدَّ قلبي»، «بئر الحرمان»، «اللقيطة» وغيرها من أعمال كرّستها واحدة من نجمات الصف الأول.

الصورة المطبوعة في أذهاننا عن «ملاك الشاشة» من خلال أعمالها لم تتماهَ أو تتطابق مع صورة أخرى لها تظهّرت مع شيوع البرامج الحوارية في الفضاء التلفزيوني العربي حين أطلت في أكثر من حوار ناري صابّةً جام غضبها على «أبناء الكار»، وقد تسنى لي أن أكون من أوائل محاوريها عربياً قبل قرابة 18 عاماً في حلقة تلفزيونية أثارت زوبعة من ردود الفعل نظراً لصراحتها العالية وجرأتها في قول ما تريده بلا مسايرة أو مجاملة. أذكر من ذاك اللقاء الذي حفر عميقاً في ذاكرتي المهنية احتجاجها على لقب «سيدة الشاشة العربية» الذي تحمله الممثلة فاتن حمامة، وحين اتصل بنا الفنان عادل امام مستهجناً وشارحاً أن حمامة لم تلقّب نفسها بل لقّبها نقاد ومحبون نظراً لبراعتها التمثلية ومكانتها الفنية العالية، ردت فخرالدين منتقدةً لقب «الزعيم» الذي أُطلقَ عليه.

لا يختلف اثنان على المكانة الفنية لفاتن حمامة وعادل امام، لكن ظاهرة الألقاب جديرة بالنقاش، خصوصاً أنها تخرج عن حدها وتغدو أحياناً مثيرة للسخرية كأنْ يُلقب مطرب ما بـ «مارد الغناء العربي» فقط لكونه طويل القامة، علماً أن اللقب لا يُقدّم ولا يؤخر في المهارات الفنية لهذا الممثل أو ذاك المغني، فهل ينقص «أم كلثوم» شيء لو لم تُسمَ «كوكب الشرق»، وكذلك حال معظم المبدعين أمثال فيروز وعبدالحليم وصباح ووديع الصافي وسواهم، اللقب مجرد صفة يطلقها ناقدٌ أو صحافي ثم تشيع وتنتشر على ألسنة الناس من دون التمعن في فحواها ودلالاتها.

معرفتي بمريم فخر الدين ومجالستي لها وإنصاتي اليها في أكثر من مناسبة تدفعني للقول أنها لم تقصد التجريح أو الاساءة بتكرار تصريحاتها النارية، جلُّ ما في الأمر أنها ظلت تشعر بالغبن وبعدم التقدير بسبب ما أشرنا إليه من محاصرتها ضمن إطارالشكل الجميل، فضلاً عن عدم تصالحها مع المراحل العمرية التي تلت مرحلة الصبا، ولهذا ربما راحت تطل سليطةً مهشمةً صورة رومانسية لها انطبعت في أذهاننا من خلال الأدوار المُشار اليها.

أياً كان اللقب الذي تحمله مريم فخرالدين تبقى واحدة من جميلات سينما جميلة تمثل مكوناً مهماً من مكونات ذاكرة جماعية تحتاج الكثير لإنعاشها وإيقاظها من غيبوبة قاتلة، وكما نرجو لذاكراتنا أن تستيقظ نصلي لمريم فخرالدين أن تفعل.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]