أين والدكِ؟ يسأل "غدي" جدّته في إحدى جولاته الاستكشافية لأسرار هذا العالم الذي بدأ يتعرّف عليه قبل أربعة أعوام. "لقد مات منذ سنوات"، أجابت الجدّة وهي لا تدرك أن الموت عند ذاك الطفل البريء لا يعني شيئًا، إلّا تلك الرحلة السرمدية نحو السماء حينما تصير بيتًا آمنًا للكبار يستوعب، لجهلهم أو لكسلهم، ألغازهم، خاصّة عندما يتحرّش فيهم طفل ذكي كغدي، أو فضولي لا يخاف لسعات النحل ولا الحب.
"مين طخّو لأبوكِ؟"، يفاجيء غدي جدّته،التي لجأت إلى ضحكها الطفولي، محاولةً أن تليّن، بواسطته،إصرار الطفل على معرفة القاتل. كل الأحابيل لم تنجح وجميع محاولات الجدة باءت بالفشل، فعند غدي، لا يموت البشرإلّا مقتولين وغالبًًا رميًا بالرصاص .
فجأةً، سادت لحظة وعي فرضها صراخ الطفل المتواصل والمتفاقم. فوضى الحديث هدأت حتى استعاد الصمت وقاره، وبدت على وجوه بعضنا علامات قلق وحزن.
حاولنا، كل بمهاراته، أن نُفهم الطفل أن البشر يولدون من حب، يعيشون ليس كالملائكة ، يموتون وليس حصرًا بالرصاص، بل بشكل طبيعيّ ومن مرض، كما مات والد جدته. جاهد غدي بصبر وهو يحاول الاصغاء؛ فأبقى عينيه الجميلتين مفتوحتين على وسعهما، وكانت تحيط فمه، الذي يشبه حبة كرز جولانية، شفتان قرمزيتنان، صارتا، بعد ربع ساعة، أقرب إلى لون الباذنجان. كان واقفًا في الوسط، ويدير وجهه صوب كل واحد منّا باستخفاف بارز ومهين لولا كونه صغيرًا، ثم بدأ يتلوّى في مكانه، ويبعث من جسده إشارات ضيق وحيرة، أو لعلّها كانت علامات خوف من جو الكبار.
"أعند من طفل"، قالت "مي"، ابنة عمّه، فاعترضها البعض مصمّمين، أن حالة غدي أخطر وأعوص من دحرجتها على أدراج النهفة والطرف، فهو يمثل قضيّةً مقلقةً تكبر بيننا وتنتشر، لأنّه ابنٌ لبيئته ومرآة لما يرى ويسمع .
مرّةً أخرى علت أصوات الحاضرين، فصار الجميع أفواهًا تنفتح وتنغلق، شارة التلفزيون، في الخلفية، تعلن عن نشرة الأخبار المركزية ؛ غدي يقف، بشعره الكستنائي الأشعث، ويمد سبابة يمناه، يضغطها نحوي، ويبتسم، ببسمة يتمناها رسام ماهر، ويحاول أن يصيبني في وسط جبيني. كان المستمع الوحيد، لكنّه لم يفهم شيئًا من الصراخ الذي أحاطه، أدار يده وصوّب على وجهنا واحدًا واحدًا، وبدأ يطلق رصاصه ويضحك:" طخ طخ طخ.."
بعد لحظات دخل ابن عمّه كالسهم، لم يعر وجودنا اهتمامًا، فركض باتجاه رفيقه، وأعلمه أن جميع الأولاد متواجدون تحت الدار وسيبدأون للتو بلعبة "الغميضة"، وتساءل عن تخلّفه وعدم وجوده معهم. بلحظة،انسل غدي، كفرس أطلقت إلى الريح، وغاب. شاشة التلفزيون العريضة تتربع في صدر الصالون، على وجه المذيع الذي يسكنها منذ سنوات، تظهر جدّية ممسرحة، وكأنها تنبئ بأن العالم على حافة انهيار وأن غزوًا من الفضاء بات وشيكًا. صور لأم تبكي، تلتها صور لسيّارات اسعاف. "ما أنغشه غدي! " قالت عمّته، فانتبهنا أنه غادرنا ليلعب مع رفاقه، فقطعت "مليكة" وصرّحت مطمّئِنةً: " يا عمي الولد بدو ولد".
"ششششش" طلب أحدهم منا السكوت ليسمع نشرة الأخبار . لم أتحقق من كان المعني بذلك، فبيننا ساد رأي واجماع على عدم سماع نشرات الأخبار، لأنها تصيب المشاهدين بالاحباط والتعاسة، فهي بالعادة تبدأ بتلاوة إحصائيات من قتلوا في العراق وسوريا، وقد يحالف الحظ من قتلوا في اليمن والصومال، وبعدها يجيئوننا بأخبار من رُموا بالرصاص في مدننا وقرانا، وقد ينتهون بمن نحرت وألقيت في بئر مهجورة،أو بعدد من الأطفال الذين ماتوا دهسًا أو غرقًا أو جراء وقوعهم من سطح بيتهم أو في ساحته، وغالبًا يكونون من العرب.
لم يحتدم النقاش، فالجميع سكت بشكل تلقائي.على الشاشة كانت صورة لوجه مألوف يشبه جار لنا، والخبر عنه يفيد أن مجهولين رموه، وهو يتنزه، قبل ساعات، بالرصاص، ليكون هو الضحية الثالثة في ذلك النهار . لبست وجوهٓنا صفرة ٌوساد بيننا وجوم، كسرته "نهاد" التي عادت من مدرستها، تحمل على ذراعيها غديًا، وهو يقبلها بحركات دلع آسرة . انتبهت نهاد لصمتنا، فبادرت تحكي لنا نهفة اليوم، وعندها من الظرافة ما يكفل إضحاكنا. "اليوم في حصة العربي" قالت " دخل المعلم وسأل طلّاب صفه بحماس، من سيحدثنا منكم عن أبي فراس الحمداني ؟" لم يتأهب أحد من الطلّاب للإجابة، فأردف المعلم مستفسرًا ويائسًا: "هل تعرفون، أصلًا، من هو أبو فراس الحمداني؟" أجاب جميع الطلاب بالنفي، فسألهم المعلم محبطًا : " من يحدثنا ، إذًا، عن عاصي الحلاني؟ " فرفع جميع الطلاب أصابعهم، فهنّأهم المعلم وهو يختنق :" عافاكم وحلّى الله أيامكم ومستقبلكم " ودلف مسرعًا خارج الصف وكاد الدم يفر من أنفه.
ضحكنا وضحك غدي وهو على ذراعي أمه. فجأةً، رأيته وهو يستل سبابته، مرّةً أخرى، ويصوّبها نحوي ويطلق بسمته وشفتاه تطبقان وتنفتحان بما يشبه القبلة أو غيرها، فأردتني نغاشته صريعًا. بعد ساعتين حل المساءٌ وكان لونه رصاصيًا موشحًا بسواد، فافترقنا إلى مستقبل بدا في ذلك المساء طائشًا .
[email protected]
أضف تعليق