جاء الآباء وحضرت الأمهات.. الساعة ساعة خروج أبنائهم من مدرستهم.. اشتاقوا لهم كثيرا.. لم يروهم منذ أن غادروا البيت صباحا متوجهين الى مدارسهم، وقد عانقت ملابسهم الزرقاء زرقة السماء المكللة بنور شمس يوم جديد، يضيء أمامهم الطريق نحو دروب العلم التي عملت قوى الشر والجهل على اغلاقها .. لقد اشتاق الأهل لأبنائهم، فهم اعتادوا أن يكونوا معا طوال اليوم صباحا ومساء ليلا ونهارا، في ظل المعارك المجنونة التي تأكل الأخضر واليابس في بلدهم، التي سبق واعتادوا أن يعيشوا في كنفها بأمان. سنوات وعهود طويلة تنعموا فيها بالرخاء والاستقرار والطمأنينة..إلى أن جاءت قوى الشر والغدر من كل أصقاع الأرض، لتزرع العنف والخوف فيها باسم الدين الذي يبكي على ضلال من يرفعون رايته.. جاءت الغيوم السوداء لتعصف بهم أمطارا من نيران وبارود، وتحول حياتهم الى جحيم متواصل منذ سنوات ثلاث ونيف.
كان الأبناء، أطفال بعمر الورد المبرعم حديثا بألوانه الزرقاء واشراقاته المتلألئة، ينتظرون قرع الجرس على أحر من الجمر الذي اكتووا بحرارته في السنوات الأخيرة.. منذ الصباح لم يسمعوا أمهاتهم يرددن على مسامعهم الأناشيد العذبة التي تزرع أملا في نفوسهم، ولم يعانقوا آباءهم عناقا يشعرهم بالطمـأنينة الصادقة ولو للحظات، ولم ينزووا مع اخوتهم في ركن من أركان البيت يحتمون بأحضان بعض درءا لشظية صاروخ، يمكن أن تفرق بينهم على حين فجأة.. بلباسهم الطاهر السماوي الذي لم يتلوث بعد بغبار المقاعد، وحقائبهم الجديدة التي لم تستقر بعد على ظهورهم الطرية التي أثقلها هم الواقع وغم المستقبل.. بابتسامة عريضة على وجوههم خرجوا من الصفوف يودعون معلميهم ومعلماتهم، على أمل لقاء غير مضمون في اليوم التالي.

لم تكد أياديهم تنتهي من التلويح للمعلمين والمعلمات، وأعناقهم تستعد للالتفات للجهة المقابلة نحو آبائهم وأمهاتهم، وأكفهم ما زالت مرفوعة تستعد للانتقال لتحية اللقاء، وعيونهم تبحث عن ذويهم المنتظرين شوقا وحبا وكبرياء. وقبل أن تنطلق الحناجر: هياني بيّ.. هياني إمي.. وقبل أن يتمكن الوالد من احتضان ابنته لتشعر بالأمان، وقبل أن تتمكن الأم من التقاط يد ابنها لتضمه لدفء حضنها، وقبل أن يتمكن الطفل من معانقة والدته سائلا ببراءة الطفولة عن وجبة الغداء التي أعدتها له وتركتها "على النار" بانتظار عودة الأبناء، ليتناولوا لقمة ساخنة لذيذة تمنت أن يهنأوا بها.. دوى صوت الانفجار.. كان "الذئب" بانتظارهم يرتدي ملابس الحقد السوداء، يتوارى جبانا عن عيون الوافدين الصغار والمنتظرين الكبار، أطل ليعايد الأطفال الأبرياء، الذين تحدوا ارادته الوحشية ونزعوا عنهم ثياب الخوف ..عز عليه أن يتحداه الأطفال العزل إلا من بقية أمل وتفاؤل بغد أجمل. وما ارتوى من دماء الأطفال الزكية وطلب المزيد.. وقهقه بجنون.

لم يتحرك أحد، جمدوا في أماكنهم، ظنوا الانفجار في حي آخر.. هل يعقل أن تفجر مدرسة وأن يستهدف أطفال في حرب "الكبار"؟ أشلاء طرية في عرض الشارع، يد تنزف على الرصيف، ساق ترتطم بجدار الحي وتسقط.. دماء في كل ركن وزاوية، غطت سيارات الأهالي القادمة لتقل الأبناء الى البيوت، واذ بها تصبغ بألوان دمائهم الحمراء..حقائب صغيرة.. كتب.. دفاتر وأقلام تبعثرت وبقيت الشاهد على سلاح الطفولة..هنا بقايا يد كانت تحمل قلما وترسم أحلاما طفولية.. وهناك قدم مقطوعة كانت تستعد للمشاركة في مسابقات دولية في العدو.. وعلى الجدار بقايا خلايا دماغ كانت تخطط وتفكر بمستقبل واعد لطبيب يساهم في انقاذ أبناء الوطن من الأمراض، أو لمهندسة تصمم بناء مستقبل وطن يحتاج لجهود أبنائه لاعادة بنائه من جديد.

لم يرتو "الذئب" من دماء الأطفال التي صبغت ثيابهم المدرسية باللون الأحمر القاني حاجبا الأزرق السماوي..وبأسنانه الحادة المسعورة حدّق في أهالي الأطفال المتزاحمين جيئة وذهابا، هذه أم تنادي ابنها وذاك والد يهتف باسم ابنته، كلٌّ يفتش عن قطعة كبده وكانت تمشي على الأرض قبل لحظات، باتت أجزاء متناثرة على الجدران والأرصفة. هذا يشق صدره حزنا ولوعة، وتلك تشد شعرها صراخا ويأسا.. ولسان "الذئب" يتراقص في جوفه ويمسح أسنانه المبتلة بدماء الأطفال طلبا للمزيد.. وانفجار آخر يلحق الآباء والأمهات بفلذات أكبادهم ومهجات أرواحهم... ويلعق "الذئب" الدماء بنهم جنوني وهو يطلق موجة جنونية من الضحك الهستيري.. بينما يتردد في الجو صدى أصوات أطفال المدرسة منشدا: يا معلمتي.. يا معلمتي.. اجا الديب تـ ياكلنا، بنعمل شو؟! 

(شفاعمرو/ الجليل)
(في أعقاب المجزرة الارهابية التي طالت أطفال مدرسة عكرمة المخزومي في حمص، عشية عيد الأضحى المبارك، الأسبوع الماضي) 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]