كل التفاصيل سوف تطمر وتنسى، ولن يبقى من حادثة الصحافية عميرة هس، وما حصل معها في جامعة بير زيت، إلّا ما سيؤذي سمعة الجامعة ومكانتها صرحًا طليعيًا ومأوى في جنباته زرعت بذور الديمقراطية الفلسطينية الواعدة، وفيها مارست "الحريّة" طقوسها العلنية، في وقت بدا فيه أنهم يغلقون عليها، في سائر نواحي الوطن، بأقفال العفّة والحرام.
والقصة، كما وصفتها عميرة هس في مقال نشرته في صحيفة هآرتس يوم 27 أيلول 2014 كانت "غير شخصية"، على الرغم ممّا تضمنه مقالها من مواقف شخصية قاسية، فبعد دقائق من بداية ورشة عمل دعت إليها مؤسسة روزا لوكسمبورغ وبالمشاركة مع مركز دراسات التنمية في جامعة بير زيت، توجهت محاضرتان مسؤولتان في المركز وطلبتا من هس مغادرة القاعة والحرم الجامعي، معللتين ذلك بموجة غضب تتفاعل في أوساط الطلاب احتجاجًا على دخولها ومشاركتها كمواطنة وممثلة لمؤسسة اسرائيلية يهودية، هي صحيفة هآرتس. وقد عززت المحاضرتان طلبهما بوجود قانون قديم في الجامعة ينص على منع اليهود من دخولها؛ ضيوفًا أو طلّابًا أم محاضرين.
بعد انتشار الخبر، الذي تلقفته الصحافة الإسرائيلية وغيرها، بفرح ظاهر وشماتة واضحة، أصدرت إدارة جامعة بير زيت بيانًا أوضحت فيه عدم معارضتها لوجود الصحافية هس في الجامعة ومشاركتها في الندوة، فالجامعة، "كمؤسسة وطنية، تميّز بين أصدقاء الشعب الفلسطيني وأعدائه وتتعاون مع كل إنسان يعارض الاحتلال الاسرائيلي".
الصحافية عميرة هس تعمل منذ سنوات مراسلة للشؤون الفلسطينية لدى صحيفة هآرتس الاسرائيلية؛ تلك الصحيفة التي تميّزت،أحيانًا، عن سائر وسائل الإعلام الإسرائيلي، بمواقف أكثر انسانية وتفهمًا، فيما يخص بعض القضايا الفلسطينية ومسائل حقوق الإنسان الأساسية.
بعيدًا عن التفاصيل، التي ساقتها هس، يخلص القارئ، بعد الانتهاء من قراءة المقالة، إلى أن الجامعة تحتضن قانونًا عنصريًا وبالاستناد إليه يقوم بعض من طاقمها الأكاديمي بقمع إعلامية بارزة تعمل في صحيفة معروفة بمواقفها المناهضة للاحتلال، والسبب الوحيد لقمعها كونها يهودية!
لشخص مثلي هذه خلاصة مقلقة وحزينة.
لقد أخطأ من تعمّد طرد عميرة هس من الجامعة ومنع مشاركتها، فعلاوة على الضرر الذي قد تلحقه هذه الفعلة باسم الجامعة وسمعتها، تبيّن، أن الذريعتين المستعملتين من قبل من طردها غير صحيحتين؛ فلم يكن هنالك نشاط لطلاب غاضبين ومتأهبين لمهاجمة الندوة، كما قيل لهس، مما يعني ان أحدهم اختلق الحجّة وفبركها، وهذا بحد ذاته تصرف خطير ومرفوض.
والأهم، من ذلك، أنني علمت، بعدما توجهت إلى أحد الأصدقاء من الأساتذة البير-زيتيين القدامى، بعدم وجود قانون يمنع دخول اليهود إلى الحرم الجامعي لأنهم يهود، كما يتوقع من مؤسسة أكاديمية عريقة.
لقد أوضح البيان الصادر عن الجامعة موقفًا كان ضروريًا، لكنه، في نفس الوقت، وضع العديد من نقاط الاستفهام والتساؤل حول مسؤولية إدارتها عن تداعيات الحدث ونتائجه، فإذا لم يكن هنالك مسوِّغ قانوني ولم تنشأ حاجة ميدانية لطرد هس، فمن أجاز لمن مثّل الجامعة أن يتصرَّف باسمها كما تصرّف؟ وهل ستكون هنالك متابعة مسؤولة لاستخلاص ما يلزم من نتائج كي لا تبقى هذه المسألة معوّمة والتفاصيل مذبوحة، والمواقف تتجاذبها صفحات التواصل الاجتماعي، حيث لا يعرف الخيال سياجًا ولا الوطنية وسادةً.
كتبت عميرة هس بوجع ظاهر فجاءت كلماتها كالدبابيس، وهي التي تسكن رام الله منذ وقت طويل دون أن يتعرّض لها أحد، بل، على العكس، فهي تعيش بوئام وباحترام مع من يحيطونها ويعرفونها، كما تشهد على ذلك كلماتها، وعلى الرغم من أنها وصفت ما حدث معها بحادثة غير شخصية، إلّا أنني أرى أن غضبها، المبرّر في حينه، منعها من أن تتمم واجبها الصحفي الذي كان يقضي بأن تتحقق من بعض ما سمعته لدى حضورها الذي كان يوم الثلاثاء، وكتبت عنه بعد عدة أيام، فلو تحققت من بعض التفاصيل الهامة لكان أجدى وربما كان في ذلك مدعاة لتغيير من حدة مقالها.
أبدت عميرة هس فرحًا مبشّرًا بما فجرته حادثتها من موجة نقاش هام اشتعلت على صفحات التواصل وفي بعض اللقاءات، وتناول فيها المتحاربون مواقف مؤسساتنا الأكاديمية وغيرها من مسألة التواصل/ التفاعل/ التعاون/ أو التحاور، مع اليهود على جميع انتماءاتهم، لكنني أرى أنّها تراهن على فرح واهن، فالحادثة معها لم تكن الأولى ولن تصبح الأخيرة في مطارحنا، لأن القضية لا تتعلق فقط بذلك الترف الثوري ورومانسية عجوز عاجزة، ولا "بالمنطق المناهض للاستعمار والذي يقضي بمقاطعة ناشطي اليسار اليهود الإسرائيليين" والذي ترفضه هي كيسارية يهودية بل، لأننا في فلسطين نعرف أن: "للحقيقة وجهان، والثلج أسود فوق مدينتنا/ لم نعد قادرين على اليأس أكثر مما يئسنا" فهل تعرفين ذلك يا ساكنة رام الله ؟ وأنّ: "للحقيقة وجهان، كان الشعار المقدس سيفًا لنا/ وعلينا، فماذا فعلت بقلعتنا قبل هذا النهار؟".
خيارك أن تكتبي من داخل الوجع، فاكتبي عن ذلك الوجع الذي يسيل أغزر من الحبر، وسطّري كيف يموت الحلم في حضن الحلم، ولننتظر أو نصنع معًا سلامًا أخر، وإلى ذلك الحين لنروي للقادمين حكايات بير-الزيت لأن: "هذا السلام سيتركنا حفنة من غبار..".
[email protected]
أضف تعليق