تحت هذا العنوان تكتب عميرة هس، في "هآرتس"، ان استخدام محمود عباس لكلمة "جينوسايد" (ابادة شعب) في الأمم المتحدة، تدل على ضائقة لفظية: ليس فقط في وصف الحرب الأخيرة (او ما سبقها) على غزة، وانما، ايضا، في تعريف السيطرة الإسرائيلية على الفلسطينيين (على جانبي الخط الأخضر). وبدون الخوض في السؤال حول ما اذا كان عباس يتمسك بأقواله، او انه فهم بأن عليه تمثيل مشاعر شعبه بشكل افضل من الماضي، فان الخطاب بمجملة يشكل صرخة. ولأنه لم يكن بامكانه الصراخ هناك، فقد استخدم الكلمات عبر ديسيبل عالية (صافرة انذار).
نحن نميل الى الصراخ عندما لا يصغون الينا. الاسرائيليون خبراء في عدم الاصغاء. وهكذا فانه بدل ان يتحدثوا عن عدم اصغائهم يقومون بحرف النقاش الى الصرخة. وهذا هو كمين كل صرخة، او كل انحراف عن تفاهمات اللياقة لما يسمى بالمعيارية. وتقابل الصرخة بالشجب لأن ابناء الحضارة لا يصرخون. انهم يعملون الكثير من الأمور، يهدمون، يقتلون، يطردون، لكنهم يتصرفون كما يجب في حفلات الكوكتيل.
ولا تنحصر الضائقة اللفظية بعباس، وانما تشمل كل الذين لا يرغبون بوصف القائم بواسطة التعريفات التي تطرحها الكتب والمقالات، ويريدون تغيير القائم ايضا. لماذا يصلون الى الصراخ؟ لان هناك الكثير ممن يستمتعون بالقائم ولا يريدون التغيير. فلماذا يصغون الى غير المحتمل، وغير المبرر، طالما كانت هذه الـ"غير" لا تخصهم؟ كل من لا يكتفي بتعريفات الملصقات أو الكليشيهات، يصل الى الضائقة اللفظية. اكتب عن طرد انسان من أرضه ومنزله، وسيتعامل الإسرائيليون مع ذلك كعينة واحدة لا تعكس المجمل العام. اكتب عن الابعاد والطرد، وسوف يذوب ذلك كإحصائية ليس لدينا أي علاقة بها. تحدث عن مقتل طفل بأيدي الجنود، وستحتضن قلوب الإسرائيليين الجنود الذين يواجهون الخطر على حياتهم. تحدث عن مئات الأطفال الفلسطينيين الذين قتلهم الجيش الإسرائيلي، وسيتحدث الإسرائيلي عن الصاروخ الذي سقط في رياض الأطفال الاسرائيلي الفارغ.
عندما يتم حذف المعلومات والحقائق والمعاني، فان المصطلحات التي تعبر عنها تتحول في عيون المستمعين الى ملصقات وشعارات. وهكذا علينا ان نعيد كل مرة اختراع العجلة من جديد. ان نحكي عن الأمر نفسه، بطرق اخرى. ويمكن تلخيص الـ25 سنة الأخيرة بما يلي: كل الجهود التي قام بها الفلسطينيون لاظهار معارضتهم للسلطة الغريبة التي فرضت عليهم، باءت بالفشل. فإسرائيل لم تصغ للرسالة، وانما عملت على تطوير وتصعيد الوسائل التي تستخدمها لقمع أساليب التعبير الفلسطيني (نعم ان الحجارة والصواريخ وكذلك الخطابات والمقالات، هي اساليب يستخدمها الخاضع كي يعبر عن يأسه). لقد طورت بنت الحضارة وصعدت أساليبها، ومن ثم تذمرت لأن الفلسطينيين يواصلون المقاومة.
التصعيد والتطوير يعتبران مسألة صحيحة بالنسبة للعديد من الوسائل المتاحة للشعب - السيد: الإجراءات البيروقراطية والتقنية (تقييد الحركة والسيطرة من خلال التصاريح وحظر البناء والتنمية)، الوسائل العسكرية (الأسلحة والذخائر التي يتم ترقيتها طوال الوقت لتصبح اكثر قاتلة، والاستخبارات التي تصل حتى الى سرير المرضى)، والوسائل الدبلوماسية.
يبدو انه لا يوجد لنا منافسون في استخدام المكر والغدر لفرض سيطرتنا على الشعب الآخر. الكثير من الاسرائيليين، الأخيار والأشرار، انتهجوا المكر والغدر لجعل المفاوضات تضفي الشرعية على توسيع المشروع الاستيطاني، ودفع الفلسطينيين إلى مناطق مكتظة (ومرة أخرى، على جانبي الخط الأخضر)، والاستئناف على علاقتهم الطبيعية، العميقة والتاريخية بهذه الأرض، وطنهم. لقد حملوا القيادة الفلسطينية المسؤولية عن المدنيين، ولكنهم يمنعون عنها الصلاحيات والموارد كي تتمكن من حمل المسؤولية. ويمكن لهذا المكر والغدر الدبلوماسي فقط أن يفسر لماذا اضطر عباس، اكثر المؤمنين بالمفاوضات، الى الصراخ في الأمم المتحدة.
[email protected]
أضف تعليق