يقول الفيلسوف نيتشة في كتابه "هكذا تكلم زرادشت" الفصل العاشر: "الحرب والشجاعة حققا من الخير أكثر مِـمَّا حققته الشفقة؛ ليست الشفقة، إِنَّمَا الشجاعة هي التي تنقذ الضحية. ماذا يهم طول العمر؟ وأي فارس يطلب السلامة؟". ولم يساوِ نيتشة في كتابه بين الفرسان الذين وصفهم بالأبطال الأشاوس وبين الجنود الذين يفتقرون الى التفرد والتميّز كما ذكرهم. وقد وصفت الكاتبة سميرة الخوالدة الاختلاف بين كلمتي "الفارس" و "الجندي"- حسب نيتشة- على أنه شاسع: الأولى تدل على الإباء والشرف والقيادة وعلو الهمة. والثانية رمز للخضوع وتشابه أفراد القطيع.
وفي وقت يشتد فيه الخناق على المسجد الأقصى وتحيط به مخالب الاحتلال للنيل من مُسمّاه الإسلامي، أطلّت رؤوس فرسان أبوا للذل مقاماً، وهبّوا نصرة لمسرى نبيهم دون أن تردعهم عنجهية الاحتلال أو تثنيهم عن إعماره. وحين حظيتُ بلقاء أحدهم مؤخراً، وجدت نفسي أقف أمام هامة شامخة الحضور بهية المنظر كشجرة البلوط الذي رُكن جذعها في مدخل بيته، رمزاً لما يحمله هذا الرجل من صلابة وكبرياء، اندثرت أمامها قيود الاحتلال وخضعت لإيمانه المطلق بحقه الخالص في المسجد الأقصى المبارك.

لقد اختار الحاج طه شواهنة (أبو علي) من مدينة سخنين أن يكون من عُمّار المسجد الأقصى، بعد أن رأى بعينه ما يتعرض له المسجد من انتهاكات تنذر بنكبة جديدة لن يمنعها إلا النهوض وإعماره بأهله الأصليين. فكان في طليعة فرسان الأقصى الذين نفضوا عنهم غبار الدنيا وثبتوا على حقهم في إحياء المسجد الأقصى والتعبُّد فيه بحرية من دون قيود.

حنجرة الحاج أبو علي تؤرق مضاجع الاحتلال

عند دخولك المسجد الأقصى لا يمكن لأذنيك أن تغفل عن هتاف الحاج أبو علي الذي يملأ سماءه في كل ظرف ومناسبة؛ إن شاهد صديقاً له في المسجد تصدح حنجرته بالتكبير، وإن سمع أحدهم يتلو القرآن يباغته فوق رأسه مُكبِّراً، وفي حال سمع الحاج خبراً ساراً، فإن هذا يعني أن التكبير والتهليل لن ينقطعا في هذا اليوم. لكن هذا الصوت بات يؤرق الاحتلال لأنه يتزامن أحياناً مع اقتحام اليهود للمسجد ويسبّب لهم الخوف والهلع من سلطان حضوره، ما حدا بشرطة الاحتلال اعتقال الحاج في السابع عشر من هذا الشهر واتهامه بالتحريض على العنف.

ويقول الحاج أبو علي عن ذلك " اعتقلتني شرطة الاحتلال بعد يوم شهد فيه المسجد الأقصى اقتحامات مكثفة حملت طابع استفزازي، حين سار المقتحمون اليهود ببطء شديد بين المصلين، فيما وقفت مجموعة منهم على بعد سنتيمترات قليلة منا دون أن تتحرك، ما جعلني والمصلين نُكٓبِّر في وجههم ونهتف فداءً لطُهر الأقصى وقداسته". وتابع الحاج " وفي اليوم التالي توجّه إلي أحد عناصر شرطة الاحتلال في المسجد الأقصى وأبلغني أني مطلوب للتحقيق، وعندما وصلت مركز التحقيق أبلغني المحقق هناك أني متهم بالتحريض، وقام بعرض شريط فيديو ظهرتُ فيه وأنا أُكٓبِّر أمام المقتحمين. فسألت عن المشهد الذي يدّعي فيه أني أُحرِّض على العنف وأجابني أن تكبيري هذا فيه تحريض. فلم يكن مني الا أن قلت له أني أعلم جيداً ما هو التحريض، وأن التكبير هو شعيرة من شعائر الإسلام وليس فيه شئ من ذلك، وسأبقى أُكٓبِّر في كل مناسبة حتى يأمر الله في روحي".

ولم يعجب المحقق رد الحاج أبو علي حتى أصدر أمراً باعتقاله وهدّده بالإبعاد عن المسجد الأقصى إن لم يتوقف عن ذلك، وقام شرطي بتكبيله بالسلاسل في يديه ورجليه وكأنه مجرم جنائي، اقتاده بعدها الى مركز القشلة وعرضه أمام طبيب المركز لإجراء فحوصات طبية قبيل دخوله الزنزانة. " لقد قدّر الله أن لا يعمل جهاز فحص الضغط رغم أنه كان صالحاً قبل دقائق كما ذكر الطبيب، فتم تحويلي الى مستشفى هداسا لإتمام الفحوصات الطبية حيث قرر الأطباء هناك إبقائي لثلاثة أيام على الأقل في المستشفى نظراً لنتائج الفحوصات" ذكر الحاج شواهنة الذي يبعده عامان عن سن السبعين.

الإيمان المطلق خير سلاح

وتابع الحاج أبو علي " كان عندي ايمان وثقة كبيرين بأني لن أُبعٓد عن مسرى رسول الله ولا للحظة. وفي اليوم التالي حين كانت محاكمتي قام المحامي الشخصي بتمثيلي في المحكمة وأبلغني هاتفياً باحتمال إبعادي عن المسجد الأقصى لخمسة وأربعين يوماً على الأقل، وأجبته بأني لن أرضى بيوم إبعاد واحد تحت أي ظرف من الظروف. وهذا ما شاء الله به حين قررت المحكمة الإفراج عني مع كفالة شخصية دون أن تأمر بإبعادي، رغم انحيازها المعهود لشرطة الاحتلال".

ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يقف فيها الحاج أبو علي شامخاً أمام عنجهية شرطة الاحتلال، حيث سبقتها حادثة فريدة تدل على ثقته المطلقة بقدر الله وقضائه ومهابته وحده دون شريك. " في أحد الأيام حدثت مشادة كلامية بيني وبين أحد عناصر شرطة الاحتلال في المسجد الأقصى، اتكأت خلالها على ركبتي وأمرته بإطلاق رصاصة على رأسي بدل أن يطلق تهديدات من دون رصيد. فما كان منه إلا أن تراجع بعد إيقانه عدم جدوى مقارعتي، وأني لا أخاف إلا ممّن خلق العباد".

تحدّيات أمام الفلسطينيين في المسجد الأقصى


وكانت لجنة الداخلية في الكنيست التي ترأسها عضوة الكنيست ميري ريغف من حزب الليكود قد أوصت في ختام اجتماع اللجنة مطلع الأسبوع الماضي، بأنه يجب المبادرة الى اقتراح قانون يساعد الشرطة في إثبات العلاقة بين التكبير والعنف داخل المسجد الأقصى، وأنه من الممكن أن يحتاج ذلك الى سن قوانين خاصة بالمكان. فيما حثّت شرطة الاحتلال على معاقبة المصلين الذين "يتجرؤوا" على التكبير أثناء اقتحامات اليهود، وتكثيف عمليات الاعتقال والإبعاد التي يعاني منها المصلين في المسجد الأقصى يومياً، دون ذنب اقترفوه.

فيما يشهد المسجد الأقصى حالياً إجراءات احتلالية لم يسبق لها مثيل في تاريخه الحديث، جديدها كان في إغلاقه أمام كافة النساء والرجال دون الخامسة والأربعين لثلاثين ساعة متواصلة، تزامناً مع حلول رأس السنة العبرية، وتأمين اقتحامات اليهود فيه بينما يُعتدى على النساء والأطفال المسلمين عند الأبواب. يضاف اليها اقتحام شخصيات سياسية مثل وزير الأمن الداخلي ووزير الإسكان ونائب رئيس الكنيست، خلال أسبوع واحد. فيما يُتوقع تصاعد الاقتحامات الاسبوع القادم تزامناً مع عيديّ العرش والغفران.

وأكد الحاج أبو علي أن المسجد الأقصى يحظى بأهل كرام تتزايد أعدادهم يوماً بعد يوم، مثنياً على دور النساء بشكل خاص بعد أن أثبتن جدارتهن في إحياء المسجد وصمودهن أمام إجراءات الاحتلال التعسفية بحقهن. وأضاف أن الأحداث المتسارعة في المسجد الأقصى تنذر باقتراب الاحتلال من تنفيذ مخططه بتقسيم المسجد الأقصى زمانياً ومكانياً، وأن أمر إيقافه يتعلق أولاً بنا كفلسطينيين." إن الاحتلال لا يملك في الحقيقة قوة، وإنما الدول الاسلامية والعربية هي من تنازلت عن حقها في العزة والكرامة، حتى طغى وركب ظهورها, وأصبح حالها على ما هو عليه اليوم من خنوع".

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]