منذ زلزال هبة الأول من أكتوبر عام 2000، جرت دماء كثيرة في النهر.
جيل كامل نشأ وكبر منذ ذلك التاريخ، ولم يعش أحداثها وأحزانها وبطولاتهاـ لكن طلائعه تشرّبت من الرواية التي كتبها المنتفضون بالدم والحاضرة في تفاصيل حياتنا اليومية، ومع كلّ استحضار لها في أيام الذكرى وفي المناسبات الوطنية. جيل يعيش في مناخ يظلله عنف المستعمر الذي لم يتوقف للحظة، عنف سافر حينًا، مضمر أحيانًا أو ناعمٌ وخبيث، يشكّل مصدرًا للتعبئة والشحن والتحريض المتواصلين ضد الظلم.
في تلك الأيام الأولى من شهر أكتوبر بدا لك وكأنك وسط مشهد خيالي حط فجأة من السماء، لكنك لم تكن كذلك. تجد نفسك مع الجماهير الغاضبة، مستسلمًا لعواطفك. لا أحد يقودها، بل تقودها المشاعر والأحاسيس الملتهبة والتي خنقت لفترة طويلة. هذا الحضور الجماهيري الهائل يفرض عليك الهيبة والهالة ويشل لسانك عن قول أي كلمة أو عن أي تدخل أو سؤال.. أو أي نصيحة أو توجيه. تعود الذاكرة لتكوّن أسئلة الحاضر والمستقبل.
بروفات سبقت الزلزال
رغم السنين التي مضت والدماء الكثيرة التي سالت في أنهار الأحداث منذ زلزال أكتوبر، إلا أن هناك من لا يزال حائرًا في الأسئلة المتعلقة بحجم هذا الحدث ومدى ملاءمته لنا؛ لخصوصيتنا ولمقدرتنا كمجموعة قومية. كما أن هناك أيضاً الأسئلة الأهم، التي لم يتم حسمها حتى الآن، والمتصلة بكيفية الاستمرار بعد هذا الحدث الكبير، بأية مفاهيم، وبأية أدوات، وبأية رؤية.
لقد كنت أحد الناس، كمسؤول في حزب سياسي وكعضو في لجنة المتابعة، الذين رصدوا مقدّمات هذه الهبة وانخرطوا مباشرة في البروفات التي سبقت ذلك وبالتحديد المواجهات في قرية أم السحالي التي هدمتها المؤسسة الإسرائيلية عام 1998، حيث تمكنا، في إطار لجنة المتابعة، من إعادة بنائها. لقد شكلت هذه المواجهة الناجحة، قَطْعًا جزئيًا مع حالة السكون والسلبية وغياب المجابهة الميدانية التي سادت في السنوات التي تلت توقيع اتفاق أوسلو.
بعد أشهر جاءت معركة الروحة، التي استمرت فيها المواجهات ليومين في أم الفحم وشارع عارة. وفي 30 آذار من عام 2000 أيضاً اشتعلت المواجهات حين اقتحم المتظاهرون، السياج الشائك الذي حاصر سخنين من الغرب والجنوب، فمزقوه. وعلى أثرها مباشرة أيضًا اندلعت انتفاضة طلابية فلسطينية، بعد هدوء طويل، في الجامعات الإسرائيلية.
كانت هذه المواجهات المخططة من القيادات السياسية، بطبيعة الحال، تعبيرًا عن الحاجة لإنهاض الناس المحبطين بعد مرحلة سياسية بائسة، جراء شعورها بعدم القدرة على الردّ على استمرار الاعتداء المتواصل على أرضها وحقوقها.. خاصة بعد أن رأوا القيادة الفلسطينية تستسلم وتوقع على اتفاق لا ينصفها ناهيك عن كونه لا يُنصف كل تجمعات الشعب الفلسطيني، في الضفة والقطاع، واللاجئين الفلسطينيين المنتشرين في بقاع الأرض.
صباح الزلزال
تنتقل من بلدة إلى أخرى، منذ الساعات الأولى للانفجار حيث المظاهرات والمواجهات العارمة لتكون مع أكبر عدد ممكن من الناس.. تريد أن ترى كل الناس. ترى كل الشعب في الميدان من كل الأجيال، وإن كان عنصر الشباب طاغياً على الحشد. ينشغل عقلك عن أحداث المجزرة المتواصلة في شوارع قرى ومدن ومخيمات الضفة والقطاع والقدس حيث هناك كانت الشرارة الأولى وهي أصل الملحمة، وحيث هناك كان الحدث الأكبر الذي أشعل فلسطين كلها تحت أقدام المستعمرين.
تنشغل عن عدد الشهداء الهائل الذين يسقطون بواسطة قصف الطائرات والمدافع. تندفع مع الجماهير وتنسى، في أوج هذا الطوفان، أنك مسؤول في حركة وطنية، أو في هيئة تمثيلية عربية، تنادت من اللحظات الأولى، وبإلحاح مني ومن رفاقي، للتداول في نوع الردّ. وكان اجتماع المتابعة والذي صدر منه القرار بالإضراب العام، إضراب الغضب والمساندة لشعبنا. والحقيقة أن الكثيرين من الناس لم ينتظروا قرار المتابعة، إذ كانت قد اندلعت اشتباكات مع الشرطة في عدة بلدات عربية.
تخال أن قوة فوق الطبيعة، خارجة عن سيطرتنا، تدفع بهذه الجماهير، بكافة الأعمار من الرابعة عشر حتى ما بعد الخمسين .عيونهم تقدح شرراً وحناجرهم تصدح. لا أحد يسأل، لا أحد يناقش، لا أحد يتحدث مع أحد، يعلو الهتاف الناري، والحجر والإطارات المشتعلة والمتاريس في الشوارع تتسيّد الموقف. تسمع بين الحين والآخر شتائم من بعض الشبيبة ضد قوات الشرطة.
من يحاول من رؤساء سلطات محلية أو مبعوثين عنهم لضبط الأمور، يتحول إلى معادٍ للثورة، ومتهاون وجبان. لسان حال الجمهور يعلن: لا مساومة لا تهاون.
تنزل إلى الشارع وتفقد فاعليتك كمسؤول ودورك في التوجيه، أو الترشيد. تصبح واحدًا مثلهم وتندفع معهم وتذوب فيهم، وتُصاب كما يصابون..
لم تكن الأمور منظمة. ولكن هل أصلاً كان يمكن، وبواقع هيئاتنا التمثيلية، أن يكون هناك هيئات ميدانية تنظم هذا الحراك. من كان يتوقع أن ينفجر هذا الغضب المتراكم بهذا الحجم وبهذا المستوى ويتحول إلى طوفان لا يأسر المراقب الخارجي فحسب، بل يأسر المنخرطين في هذا الحراك الهائل الجارف.
قنص واشتعال وشهداء
صدر قرار من رئيس حكومة إسرائيل آنذاك إيهود باراك بإخماد الهبة بكل الطرق. وحين كنت أحاول شق طريقي نحو أم الفحم، بعد أن جاءتنا صدمة سقوط أول شهيد، وجرح العشرات، استمعت لمراسل راديو إسرائيل، وهو يقول، إنه علم من أحد الضباط على مدخل أم الفحم أن لديهم تعليمات بقنص قادة المظاهرات. وتلا ذلك صدمات أخرى، كانت أنباء سقوط الشهداء تتوالى.. الدموع تفيض على وجهك وتشتعل النار في داخلك.
المدهش، هو أن القتل، وسقوط الشهداء والجرحى لم يكن ليُهدئ الوضع، بل بالعكس كان يُشعل الوضع مجددًا، ولم تهدأ المظاهرات إلا بعد أن قررت لجنة المتابعة ذلك، وبعد التفاوض مع حكومة إسرائيل بسحب قواتها من مداخل المدن والقرى العربية.
لم أتمكن، كغيري، من دخول العديد من البلدات التي كان يغلقها الجيش. فكنا نحاول البحث عن طرق التفافية، أو ترابية للوصول إلى هناك. وصلت الناصرة بعد سقوط الشهيد إياد لوباني بدقائق، حيث حمل على الأكتاف وسرنا في الشارع. ولم تمض دقائق حتى امتلأ الشارع الرئيسي بالآلاف، شيء لا يصدق. "يا شهيد ارتاح ارتاح، إحنا منكمّل كفاح".
في هذه الأثناء جاءني خبر بأن قريبي الشاب أسيل عاصلة أصيب بجراح، تحدثت مع والده من قلب مظاهرة الناصرة الصاخبة، فأجابني بصوته الهادي المعهود، إنه جُرحَ جرحًا طفيفًا. لكن تبيّن بعد ذلك، ويا للهول، أن الطلقة كانت قاتلة. وبعد ساعة جاءتني الصدمة الكبيرة بأنه استشهد.
وتوالت أخبار الاستشهاد في الأيام التالية مع اشتداد الهبّة ومع عودة المواجهات، شيعناهم بغضب ما زال يسير في دمائنا الرافضة للنسيان؛ أحمد صيام جبارين، محمد جبارين، رامي غرة، علاء نصّار، عماد غنايم، وليد أبو صالح، مصلح أبو جراد، رامز بشناق، محمد خمايسي، وسام يزبك، عمر عكاوي.
الجماهير الغفيرة، قالت كلمتها، دون أن تجلس وتتداول في الأمر. تفجرت عواطفها الجياشة، وتحولت إلى غضب عارم يغمر شوارع القرى والمدن العربية. وزادها اشتعالاً سقوط الشهداء، فكلما سالت دماء جديدة، أو سقط شهيد جديد. إنضم المزيد من الناس، وتحولت جنازات توديع الشهداء، إلى مسيرات غضب وتنديد ووعيد.
الحركة الوطنية والزلزال
صحيح أن الحركات الوطنية خاصة، في تلك الفترة، كانت قد جددت إعادة بنا كوادر حزبية ووطنية ونشرت أفكار قومية وتعبوية، ساهمت في التمهيد لهذا الانفجار. وصحيح أن المخابرات أصدرت بيانًا رسميًا يتهم التجمع وكوادره بالمسؤولية عن ذلك، وجاء في البيان أن قادته وكوادره شوهدوا في المظاهرات، وهذا صحيح. لكن الحقيقة، أن هذا الانفجار كان أكبر بكثير من قدرة التجمع و كل القوى السياسية على استيعابه، فقد كان حصيلة تفاعل عوامل تاريخية وآنية تراكمت واجتمعت إلى أن جاءت الشرارة.
لكن في المقابل، لا يمكن عزل هذه التطورات التجمع الوطني الديمقراطي، كمُكون سياسي ذي دور مركزي ظهر أواسط التسعينات لمّ شمل كلّ من ارتبط بأهداف الحركة الوطنية الفلسطينية، ربط العمل الوطني بحاجات الناس، وأعاد بعث الأمل ومنع انتشار سلوكيات الأسرلة والتسليم بالواقع التي تغذّت من حالة النكوص العام، وساهم في إعادة العافية إلى أحزاب كبيرة أخرى إذ راحت تتنافس على العمل، وتنخرط في جدل هام حول الطروحات، وهو جدل، حتى لو اتخذ في حالات كثيرة الحدة، وسّع الثقافة السياسية، لدى النخب والأجيال الجديدة، وفتح عيونها وعقولها على معادلات سياسية، وعلى أفكار مقاربات لم تكن معروفة لديها.
لقد تصدت الحركة الوطنية في الداخل، بعد زلزال أكتوبر، لمحاولات تبديد وتمييع معانيها في خيم التعايش البائسة التي راح يقيمها البعض مباشرة بعد توقف المظاهرات والمواجهات. فقد تنبه رموز الحركة الوطنية، سياسيوها ومثقفوها مبكرًا لهذه المحاولات الانهزامية. إذ اجتهدوا في تجميع تفاصيل ومعاني الرواية لتمريرها لتقديمها لهذه الأجيال ولتحصينها. كنا نحتاج لأمور كثيرة أخرى لأن تنجز، ولأن يكون هناك استثمار حقيقي لمعاني ودروس المواجهة. ولكن ستبقى، هذه المهمة على ما يبدو على عاتق طلائع الجيل الجديد الحالي والقادم.
بعد كل هذه الفترة الطويلة، والتي اشتد فيها الصراع، وتعمق العداء الإسرائيلي للفلسطينيين، تصبح مهمة تقوية المجتمع العربي، وإعادة صياغة العلاقات بين الأحزاب والحركات مهمة لا تنتظر. كيف نُحقق ذلك؟ الجواب معروف.
[email protected]
أضف تعليق