قبل عقدين من الزمن وعندما فتحت"الأسواق" أمام أبناء شعبنا في الخفاء، لشراء السلاح من مصادر مشبوهة، همس لي أحد الأصدقاء أن هذا الأمر مخطط وستظهر نتائجه بعد سنوات. سألته كيف؟ أجابني أن ما يجري ليس صدفة وسيعود علينا بالدمار، فالسلطة تغض النظر عن تجارة السلاح لأنها ستعود بالضرر على مجتمعنا وشعبنا، حيث سيستخدم السلاح ضد بعضنا البعض، وهكذا ترتاح السلطة من "وجع الرأس" الذي يسببه الوجود العربي لها!
للأسف صدق صديقي في وجهة نظره التي اعتبرناها سوداوية يومها، أو أنها نابعة من التأثر من نظرية "المؤامرة"، لكن نتائج التخطيطات ظهرت واستفحلت. واليوم يخرج الجميع يصرخ ضد العنف، وجل ما يقترحونه مؤتمر هنا أو مظاهرة هناك، وكأن هذه المعضلة تحل بأساليب وآليات مهترئة ومكررة دون تطوير.
ليس الوقت الآن وقت العتاب واللوم، ليس وقت المزاودات والشعارات، ليس وقت الكلام والثرثرة. هذا هو وقت العمل، فما العمل؟
" إنّ الله لايغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم." هذه الآية الكريمة من سورة الرعد في "القرآن الكريم"، تلخص لنا كل المعضلة. مهما دعونا ومهما تكلمنا لن يحدث التغيير، طالما أن الاقتناع بالفكرة لم تدخل قلب كل انسان منا، ويبدأ من ذاته ومن ثم عائلته وبعدها حيه فبلدته فمجتمعه. عندما نقتنع أن العنف ليس وسيلة لحل المشاكل. عندما يقتنع الشاب في الطريق أن من ينظر اليه من شباك السيارة المقابلة، لا يحتقره ولا يتحداه انما ينظر اليه نظرة عادية، نظرة فضول واستطلاع لا أكثر. عندما يقتنع أولياء الأمور أن المدرس عاقب ابنهم ولم يعتد عليه، وأن المعلم نبه ابنهم ولم يهينه، عندما يقتنع الأهل بدور المعلم التربوي وأنه حريص على مصلحة وتربية ابنهم كحرصهم عليه. عندما تقتنع العائلة الكبيرة في مجتمعنا، بأنه من حق العائلة الصغيرة أن تنافس على مقعد في المجلس المحلي، وأنه يحق للانسان المتعلم والمثقف أن ينافس زعيم العائلة الكبيرة على رئاسة المجلس، وعندما يقتنع أبناء العائلة الكبيرة بأن التهديدات بتكسير الرؤوس وقطع الأيدي، يتعلمها الصغير فبل الكبير وينشأ على أن العنف وسيلة مشروعة لتحقيق مآربه، بينما هي طريق نحو التدهور واللاعودة. اذا اقتنعنا بكل ذلك هنا يبدأ التغيير في سلوكنا، وتتبدل قناعاتنا ونفهم أن العنف لا يولد إلا العنف. ويصدق فينا قول السيد المسيح "لا تقاوموا الشرير" (انجيل متى).
طرح النائب السابق طلب الصانع، وهو الموكل من قبل لجنة المتابعة العليا، بتركيز لجنة مكافحة العنف في المجتمع العربي على أثر استفحال الجريمة وانتشار العنف، طرح بعض الأفكار والتصورات التي خرجت بها اللجنة، ونقلتها بعض وسائل الاعلام في نهاية الأسبوع الأخير. بعض تلك الاقتراحات تحمل أفكارا جديدة، وهذا لا بد وأن نقدر ونحترم أصحابها، وبعضها فيها تكرار واعادة لما سبق وطرح، وبعضها لا يمكن تحقيقه أو تطبيقه على أرض الواقع. من الاقتراحات المجترة لكن بقالب جديد، انشاء "لجان اصلاح في كل بلدة عربية يترأسها رئيس السلطة المحلية..." ومن هنا تبدأ الورطة. لقد سبق وشكلت لجان اصلاح من قبل. لو أن الاقتراح الجديد يسمي "لجنة توجيه لمجتمع آمن" بدل لجنة اصلاح، تكون التسمية أفضل وأهدافها أوضح، ولو غضضنا الطرف عن هذا الاشكال، لوقعنا في اشكال حقيقي. كيف يمكن أن يترأس رئيس سلطة محلية لجنة كهذه تعمل على مستوى البلدة، وهو الممثل لفئة متنازعة على رئاسة السلطة المحلية، وخارجة من معركة انتخابية شرسة من المؤكد أنه تخللها عنف كلامي أو جسدي؟ ان ترؤس رئيس السلطة المحلية للجنة شعبية محايدة، أمر فيه اشكال وسيجعل أطرافا محلية لا تتعاون مع اللجنة ولا تقبل بأحكامها. لذا بدل أن يرأس رئيس السلطة المحلية لجنة كهذه، يجب أن يرأسها شخصية اجتماعية- تربوية، معروفة وذات رصيد اجتماعي واسع وسمعة طيبة وصاحبة أخلاق مشهود لها في بلدته، وإلا كيف يمكن لمن جاء الى الرئاسة بحكم أنه ابن عائلة أو طائفة أو شريحة، أن يرأس ويقود لجنة تسعى وتعمل بالعدل بين أهل البلدة الواحدة؟
بالنسبة للعمل في المدارس، فهناك اشكالية كبيرة على أصحاب الشأن في لجنة المتابعة الالتفات اليها، ولديهم لجنة متابعة قضايا التعليم العربي كان من الأجدر التوجه اليها بهذا الشأن، كما أن هناك ممثلي نقابات معلمين، حيث يصعب على أي هيئة الدخول للمدارس وفرض توصياتها دون العودة لوزارة المعارف، فمديرو المدارس لا يمكنهم التصرف على هواهم حتى لو أرادوا. واذا أردت التوقف عند نقطة محددة جاءت في اقتراحات الصانع، وهي "أن يكون في كل مدرسة مركّزا لمكافحة العنف." فأظن أن هذا الاقتراح سيفشل أمام رفض مديري المدارس، ولي تجربة شخصية متواضعة في هذا الموضوع بالذات. لقد تم تقديم اقتراح مشابه في العام الماضي لمدارس حيفا العربية، من قبل جمعية التطوير الاجتماعي، والتي عملت مع المدارس في مشروع "مجتمع مدرسي آمن"، وكنت مركزا لهذا المشروع من قبل الجمعية، وعندما سمع المديرون والمديرات بهذا الاقتراح أجمعوا على رفضه في الحال. لذا ودون الدخول في تفاصيل لا حاجة لها في هذه الحالة، أرى أن تدرس اللجنة الفرعية كل اقتراح قبل تحويله الى توصية، لأن الارتجالية ستخلق حالة من الاحباط عند عدم تحقيق الاقتراحات وتنفيذها، فدراسة الاقتراح جيدا قبل طرحه توفر كثيرا من الأمور السلبية.
ولي ملاحظة أخرى على ما قاله الصانع، بأن العنف "ظاهرة دخيلة على مجتمعنا". وهذه مقولة ليست دقيقة، فنحن كمجتمع لا نختلف عن غيرنا من المجتمعات، فلدينا عاداتنا وتقاليدنا، ولدينا مقولاتنا التراثية عن الثأر والعين بالعين والبادي أظلم وما شابه، وفي بيوتنا نربي أولادنا على "من ضربك اضربه" ونشجع أطفالنا على الشتم والمسبات ونصفق لهم. وفي انتخاباتنا تتلاحم العائلات والقبائل وتصطف لمحاربة العائلات المنافسة، وتقع حروب داحس والغبراء الانتخابية. فالعنف في بيوتنا وأفكارنا وليس غريبا علينا، ولوا كان كذلك لنبذناه من سنوات، ولما انتظرنا حتى تصبح له تداعيات خطيرة ويفتك بمجتمعنا كالوباء.
طبعا لا يمكنني مناقشة جميع الاقتراحات في هذه المقالة، لكن تبقى أهم معضلة ستواجه أصحاب القرار والشأن في مجتمعنا وهيئاتنا وهي الميزانيات؟ ان البرامج العديدة المقترحة تحتاج الى ميزانيات كبيرة، وأول ما يجب تأمينه هو مصادر التمويل لهذه البرامج، واذا لم يتم تأمين الميزانيات فان كل التخطيطات ستبقى حبرا على ورق، أو ثرثرة في الهواء ولن ينفذ أي اقتراح أو برنامج.
لذا أعود وأؤكد ما بدأت به وهو القناعة الداخلية لكل انسان كمفتاح للحل، هذا هو العامل الحاسم والضامن للتصدي للعنف وبناء مجتمع آمن، خال من العنف كما نطمح، وهنا يكمن "مربط الفرس"، فاذا عرفنا كيف نزرع الاقتناع في نفس كل انسان منا، نكون قد عملنا على حل مشكلة العنف فعليا.
[email protected]
أضف تعليق