أن تسقط أوراق اللحظات الجميلة عن شجرة الأيَّام، دون أن ألتقطها، بالنسبة لي يعني شَتاتًا فكريًّا... أن يحصد منجل النّسيان سنابل ذكرياتي دون أن أحافظ عليها، هذا قمع للماضي الجميل، لأن هذه الذكريات البسيطة هي هويّة التّعرّف الإعلاميّة الحقيقية التي جعلتني أتعلّق بقصيدة الشّاعر الكبير الرّاحل سميح القاسم، "تقدّموا"، وكان ذلك قبل رُبع قرن من الزّمن.
بصراحة لم يتسنَّ لي أن أتعرف إلى الشّاعر الكبير سميح القاسم شخصيًّا، أو حتّى ألتقي به لقاءً عابرًا، لكن يكفيني أنّي التقيت بشِعره من خلال التلفزيون الأردني، قبل انتشار وباء عصر الفضائيّات وكان ذلك في أوج انتفاضة الحجارة الأولى عام 1989، وهو التلفزيون العربي الوحيد آنذاك، الذي تبنّى الانتفاضة وساهم بانتشارها عربيًّا ومحليًّا، كما كشف للأمة العربية الوجه القبيح للاحتلال الإسرائيلي الشّرس أخلاقيًّا وعسكريًّا، دون فرض أي رقابة على فحوى البرنامج من قِبَل إدارة التلفزيون.
لا أذكُر اسم البرنامج الوثائقي الذي عرضه التلفزيون الأردني في ذلك الوقت، لكنّني أذكُر أنه كان هناك تعاونًا تلفزيونيًّا، مع التلفزيون المصري الرّسمي. قدَّمت البرنامج الإعلاميّة المصريّة القديرة سلمى الشّمّاع، كان هناك مُداخلة للنّجم الكبير نور الشّريف، حول الانتفاضة. خلال هذا البرنامج عرضت سلمى مقطعَان رائعَان من الندوة الشِعرية التي أقيمَت في القاهرة، شارك فيها الشّاعر سميح القاسم برائعته، "تقدّموا" ورفيق دربه الشّاعر الكبير الرّاحل محمود درويش، الذي ألقى قصيدته الشّهيرة "عابرون في كلام عابر"، التي أغضَبَت رئيس الوزراء إسحاق شامير بقسوة معانيها، إلى أن طُرِحَت للنّقاش في البرلمان الإسرائيلي.
سجَّلتُ البرنامج على شريط فيديو، لكن مع ظهور الوسائل التقنيّة الحديثة، قمتُ بتحويله إلى ملف فيديو رقمي، ما زلت أحتفظ به إلى يومنا هذا... أثّرت هذه القصيدة فيَّ كثيرًا، لدرجة أنّي حَفَظتها عن ظهر قلب ومع رحيل الشّاعر سميح القاسم، أصبحت قصيدته "تقدّموا" بالذّات، القاسم المشترك لأوقات فراغي، فكلما جالت بخاطري، أشاهدها إمّا عبر الكومبيوتر أو عَبر هاتفي الذّكي.
كلّما شاهدتها أشعُر وكأنّي أشاهد عرضًا شعريًّا موسيقيًّا لا يشبه أحدًا، لاحظت مدى انسِجام الملامح التعبيريّة لسميح مع وجدانه، متفاعلة مع مآسي شعبه الفلسطيني، شخصيّته على المنبر، كانت تُشبه ذلك العازف المنفرد الذي أطربني بكلماته... إلقاؤه المميّز كان الموزّع الموسيقي لقصيدته، نبرة صوته الجهوريّة، عبارة عن موسيقى تصويريّة جعلت كلمات قصيدته تتذبذب على أوتار صوته، فكانت تارةً عالية وتارةً أخرى منخفضة، تتلاءم مع المقطع الشعري... كانت حركات يديه ضابطة الإيقاع، خلقت توازنًا شعريًّا فنيًّا مع إيقاعات حروف قصيدته.
قصيدة "تقدّموا"، لُحِّنَت حينها، غنّتها جوقة فلسطينيّة، الشبّان لبسوا الزّي العسكري والفتيات لبِسن اللباس التقليدي للمرأة الفلسطينيّة، (لم يذكُر البرنامج اسم الجوقة)، كذلك تم إدخال مقطَعَين متزامنين مع إلقاء الشاعر سميح القاسم المقاطع الشعرية التّالية... من اللافت جدًّا أن هذه القصيدة رافقتها صورًا مؤثّرة من الانتفاضة الباسلة وفي الخلفيّة كان صوت سميح يُؤجّج مَشاعر المُشاهِد العربي في تلك الفترة.
لذلك رأيتُ من واجبي أن أشارك القرّاء بهذه الذّكريات التلفزيونية التي لن أنساها، لأنها تركت أثرًا قويًّا في ذاكرتي إلى اليوم، بصمات ذِكراها ستبقى تُغطّي ركنًا جميلاً من حياتي... ستبقى الإبداعات المتعدّدة للشّاعر والنّاثر سميح القاسم، تُغطّي مساحات شاسعة من الأدب العربي، ستظَل راسخة في أرض العطاء.
سميح ناضل طويلاً في سبيل عدم الاستسلام لإرادة القدر، كما ما زال الشعب الفلسطيني يُناضل سِلميًّا، ضد الرّضوخ لدول القرار. هكذا ظل السميح رافعًا صواري الإبداع فوق سفينة ظروفه الصحيّة، التي ضربتها أمواج الآخرة، لكنّ ناقلات أشعاره وكتاباته، بقيَت تتقدَّم نحو مرافئ ذاكرتنا، لترسو في ميناء الذّكرى.
[email protected]
أضف تعليق