لم يمض وقت طويل لحين صدور بيان الشرطة على لسان الناطقة العربية باسمها لوبا السمري; وتبرير أمر الإغلاق الجائر بحق مؤسسة "عمارة الأقصى"، استطاعت من خلاله إرباك القارئين بعد ظن البعض أنه صادر عن سلطة الانقلاب في مصر أو النظام الاستبدادي في العراق - الذين لا يجتهدون في صياغة لوائح الاتهام ضد معارضيهم وقدّموا حجج واتهامات خيالية لا تستند لأي منطق سليم، ضاربين بعرض الحائط وعي الشعوب المتنامي وإدراكهم لحقيقة دوافعها الخبيثة.
اعتمدت السمري الازدواجية في بيانها بعد أن بدأته بإعطاء الشرعية لنشاطات المؤسسة حين كتبت أن " الغاية منها تعزيز الحضور والتواجد والرباط المتواصل للمسلمين والمسلمات في حيز الحرم القدسي الشريف ودفاعا عنه"، وتلته مباشرة بذكر المطب الذي وقعت فيه المؤسسة وأدى الى حظر نشاطاتها بحسب إدعائها " إلا أن المؤسسة قامت بالمشاركة مع حركة " حماس " في منطقة القدس على إجراء نشاطات مختلفة في حيز الحرم القدسي الشريف سعيا وراء تعزيز تواجد المسلمين بالحرم، إضافة الى مراقبة نشاطات وتحركات اليهود الزائرين في المكان ومنع " السيطرة اليهودية – التهويد" هناك (على حد تعبيراتهم )".
ومن دون خروج عن النص فإن أكثر ما استرعى انتباهي هو المصطلح الذي تستخدمه السمري في تسمية المسجد الأقصى في البيان، عندما وصفته بـ "حيز الحرم القدسي الشريف" في أكثر من سياق وأضافت اليه مسمى المسجد الأقصى في نهاية البيان فقط على اعتبار أنهما مكانان منفصلان، " في حيز الحرم القدسي الشريف والمسجد الأقصى، الذين هما أماكن مقدسة لإقامة الشعائر الدينية عند المسلمين"، مؤكدة على الهدف الرئيسي وراء إغلاق المؤسسة وهو تقسيم المسجد الأقصى البالغة مساحته 144 دونم.
*******
إن ربط نشاطات مؤسسة "عمارة الأقصى" بحركة حماس هو أمر غير مفاجئ من سلطة احتلال تتعامل مع أي حالة حماية من مخططاتها العنصرية على أنها غير مشروعة ويجب محاربتها رغم سلميتها وحفاظها على العمل القانوني في كافة الأطر ؛ وهو ما أجبر الشرطة وجهاز الشاباك على الاعتراف بشرعية كافة نشاطات المؤسسة مقابل الادعاء بالتعاون مع حركة حماس في تنفيذها، وتصوير الحركة على أنها مؤسسة اجتماعية تقدم الخدمات في مجال الأنشطة التربوية والإحيائية.
الربط بين المؤسسة وحركة حماس وإدعاء المشاركة في أنشطة المؤسسة لإحياء المسجد الأقصى غير مُجدٍ، خاصة وأن المؤسسة تعمل في هذا المضمار منذ أكثر من أربع سنوات ولديها من الخبرات والكفاءات ما يكفي لسد حاجياتها، بل ولديها ما يمكّنها من تقديم العون لأي جهة في الداخل الفلسطيني تسعى لإحياء المسجد الأقصى والكشف عن انتهاكات الاحتلال اليومية فيه.
إلا أنه لم يرق لشرطة الاحتلال أن تكون ممارساتها الاحتلالية والتغطية الأمنية التي يحظى بها المقتحمون في المسجد الأقصى على مرأى ومسمع العالم، ما حدى بها الى اتهام المؤسسة بمراقبة تحركات المقتحمين اليهود داخل أسوار المسجد الأقصى، وهو ما لم تنكره المؤسسة يوماً وإنما أكّدت عليه دوماً معللة ذلك بفضح سياسات الاحتلال والسعي لمعالجة الأحداث التصعيدية داخله، التي كان محرّكها في جميع الحالات استفزازات المقتحمين اليهود وعناصر شرطة الاحتلال المفتعلة يوميا بحق طلاب العلم المنتشرين في رحاب الحرم .
ومن احدى استطلاعات "مراقبة تحركات المقتحمين" أن وثّقت المؤسسة - منذ انتهاء عيد الفصح العبري الأخير وتحديدا في أيار الماضي - تصعيدا غير مسبوق لحالات الاستفزاز من قبل المقتحمين بحق طلاب العلم وخاصة النساء منهم، وجرّهم الى مواجهات مع شرطة الاحتلال التي توفر الحماية للمقتحمين اليهود، من أجل تبرير منع دخول المسلمين مجددًا بحجة إثارة الشغب. وهو ما حصل مع النساء حين استهدفهن الاحتلال بالتعاون مع المقتحمين مدة شهرين متتاليين، قام خلالها باستدراج النساء لملاحقة المقتحمين في أرجاء المسجد من خلال استفزازهن بأساليب بربرية، حتى الوصول الى أوامر منع الدخول المتواصلة بحقهن مع حلول شهر رمضان الأخير.
ومثال بسيط على ذلك لكنه واضح لدرجة السخرية، ما حصل في الثامن من حزيران الماضي حين اقتحم - المدعو حاخامًا- يهودا غليك المسجد الأقصى، عارضا بيده نعل إحدى الطالبات الذي سلبه أثناء الاقتحام الأول، في سعي مباشر الى استفزاز الطالبات واتهامهن بالتصعيد وإثارة الشغب، وبالتالي منع دخولهن مجددا.
وعيّنة أخرى من هذه "المراقبات" هي كشف المؤسسة عن مسارات اقتحام منظمة ومعدّة مسبقا مع شرطة الاحتلال تهدف الى التضييق على الطلاب والحد من حريتهم في الحركة داخل المسجد الأقصى، من أجل تخصيص أماكن للمقتحمين اليهود يقومون فيها بأداء طقوس توراتية يستطيع أي طفل ملاحظتها أثناء وجوده في المسجد الأقصى دون حاجته الى نظارات غوغل أو دهاء المحقق كونان في استقصاء الحقيقة الظاهرة للعيان.
*******
وصل الاستهتار لدى الاحتلال أن يقوم باتهام الطلاب والمصلين بإثارة الشغب والإخلال بالنظام داخل المسجد الأقصى دون النظر الى العامل الحقيقي والمسبب لهذه التصعيدات، وهو وجود المقتحمين اليهود داخل المسجد الأقصى منذ البداية. ودلّت على ذلك الأجواء الهادئة والطيبة التي تسود المسجد في الأيام التي يتم فيها إغلاق باب المغاربة - المنفذ الذي يقتحم من خلاله اليهود المسجد الأقصى- تأكيداً على أن هدف المسلمين الرئيسي وراء تواجدهم في المسجد الأقصى هو إحيائه والحفاظ على قدسيته، بعكس المقتحمين اليهود الذين يسعون لتدنيس رحابه والاعتداء على أهله وبنيانه.
فالإدعاء بأن اليهود الذين يقتحمون المسجد الأقصى يوميا هم زوار يدخلون من أجل السياحة هو ادعاء خادع ينبع من مكر خبيث، ويهدف الى إخفاء نوايا المقتحمين أصحاب الايدولوجيات العنصرية والمتطرفة التي يجاهرون بها في المنابر الإعلامية والسياسية، ويحاولون مرارًا أداء الطقوس التوراتية داخل أسوار المسجد الأقصى بهدف انتقاص بل وإعدام الحق الخالص للمسلمين فيه. ومن الغباء الاعتقاد أن يقوم المسلمون باستقبالهم بالورود عند باب المغاربة ويقدموا لهم الماء والتمور، وأن لا يقوموا بالتكبير والهتاف وملاحقتهم حتى طردهم.
ومن المستهجن أيضا أن يقوم ذراع سلطوي أو حتى ناطقة باسمه بتوجيه اتهام لمؤسسة "عمارة الأقصى" - التي لا تملك أي أجندة سياسية -باستغلال ميدان الأقصى لتعزيز أجندتها، بينما يتسابق مندوبو السلطة من رئيس الكنيست ووزراء في الحكومة وأعضاء أحزاب وهيئات سياسية وفكرية على اقتحام المسجد الأقصى بشكل ممنهج وتشجيع مؤيديهم على الاحتذاء بهم، إضافة الى دأب البعض على اصطحاب مصورين في كل عملية اقتحام وتوجيه كلمة خطابية لمؤيديهم يحثوهم فيها على انتهاك حرمة المسجد الأقصى، والشروع في هدمه وبناء هيكل مزعوم على أنقاضه.
أما بالنسبة لأمر تعدي المؤسسة الصارخ الذي تدّعيه الشرطة على السيادة الإسرائيلية في المسجد الأقصى فأترك الرد هنا للديوان الملكي في الأردن بعد أن طال صمته وممثليه في القدس عن هذه الإجراءات، ولم يبادر الى مواجهة إسقاطاتها على واقع السيادة الإسلامية على المسجد الأقصى المبارك.
*******
إن ادعاء بيان الشرطة في أن الاحتلال لا يسعى بإلحاق الأذى بالنشاطات الإسلامية داخل المسجد الأقصى هو ادعاء كاذب وسخيف يفنّده استهداف شرطة الاحتلال المتكرر هذا الأسبوع لحافلات البيارق التي تتوجه يوميا الى المسجد الأقصى من جميع أنحاء البلاد، واحتجاز الحافلات واستدعاء السائقين للتحقيق من دون أي مبرر قانوني لذلك. عدا عن حالات الإبعاد التعسفية ومنع دخول الأطفال المشاركين في الفعاليات التربوية عدة مرات، وتكسير كراسي الطلاب والمصلين ومصادرتها بشكل همجي.
على الاحتلال وممثليه أن يدركوا تمامًا أن هذه الإجراءات الهزيلة لن تثني أحدا عن إحياء المسجد الأقصى وإعماره يوميا بعديد المسلمين من القدس والداخل الفلسطيني، ونبشّره بأن المشاريع الإحيائية ستبقى حاضرة في واقع المسجد الأقصى الى ما بعد زواله الوشيك، لأن التأثير الذي أحدثته مؤسسة "عمارة الأقصى" على فكرة إحياء المسجد سيبقى قائماً وسيحافظ على ديمومته وانتشاره رغم اختفاء المؤسسة عن المشهد الميداني.
[email protected]
أضف تعليق