لست أدري لماذا نصمم على التمسك بالسلام خياراً استراتيجياً في ظل المعطيات الصهيونية الكثيرة التي لا تبشر بالخير أبداً، والتي ترد على غصن الزيتون الفلسطيني برفض السلام ولفظه عبر جملة من الإجراءات المبيدة والناسفة لأي تسوية سلمية من الجذور.

الاحتلال الذي توقف عن عدوانه الدامي على قطاع غزة، بعد جولة من الدمار الشامل الذي أدى لتحويل قطاع غزة إلى منطقة فوق منكوبة، هذا الاحتلال قرر استكمال مخططاته الاستيطانية بنيته مصادرة أربعة آلاف دونم من أراضي الضفة الغربية.

بشاعة الاحتلال لم تتوقف عند هذا الحد، بل زادت ذلك حينما أعطت بلدية القدس، الضوء الأخضر لبناء 2200 وحدة استيطانية جديدة في القدس الشرقية تحت ذريعة توسيع وتمكين السيادة الإسرائيلية على هذه المنطقة.

يأتي هذا كله، في الوقت الذي تتواصل فيه اجتماعات ومشاورات رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو مع وزرائه وطاقمه الوزاري والأمني المصغر، من أجل الخروج باتفاق لتحديد مصير جولة المفاوضات غير المباشرة التي يفترض أن تبدأ في القاهرة قريباً.

هذا الإجراء الإسرائيلي الخاص بمصادرة آلاف الدونمات وتسمين المستوطنات وإغراق القدس الشرقية باليهود، هو فعل استيطاني ممنهج ويهدف بالدرجة الأولى إلى القضاء على الدولة الفلسطينية المستقلة وإنهاء مشروع قيامها في الضفة بعاصمة القدس الشرقية.

بجانب ذلك، إن الاحتلال الذي يمر بأزمات سياسية في أعقاب فشله بسبب عدم تحقيق ولا هدف واحد من وراء عدوانه على قطاع غزة، هذا الاحتلال يريد أن يطري الأجواء الملبدة والمتعصبة في صفوف اليمين الصهيوني المتطرف، ونحو استرضاء هذا اليمين وتخفيف حدة نقمة الرأي العام الإسرائيلي.

دائماً يُستدعى "البعبع" والهاجس الأمني الإسرائيلي حين يرتكب الاحتلال أية حماقة جديدة، وهذه المرة يدعي الاحتلال أن الإعلان عن مصادرة أربعة آلاف دونم من أراضي بيت لحم، يأتي في سياق اختطاف المستوطنين الثلاثة، الذين وجدوا مقتولين قبل عدوان "الجرف الصامد" في تموز الماضي.

هذا هو الكذب بعينه حين تقرر دولة الاحتلال لهف أراضي الفلسطينيين بحجة واهية وغير مقنعة بالأساس، وتخفي من ورائها أهدافا كبرى تتصل بطبيعة الاحتلال نفسه القائمة على الاستيطان، كيف لا وأن الدولة العبرية قامت على أساس الاستيطان.

الرسائل الإسرائيلية من جراء هذه الإعلانات كثيرة، فهي وإن تريد امتصاص نقمة اليمين المتطرف من الفعل الإسرائيلي الناقص خلال فترة عدوانه على قطاع غزة، فإنها أيضاً تريد أن تقول للرأي العام الإسرائيلي، إن دولة الاحتلال ماضية في مشروعها الاستيطاني الإحلالي والضفة لن يكون حالها كغزة.

الرسالة الأخرى شديدة اللهجة، تريد منها دولة الاحتلال أن تصل إلى الرئيس محمود عباس، وإلى المفاوض الفلسطيني الذي اجتمع بوزير الخارجية الأميركية جون كيري، نحو تقديم خطة فلسطينية تستهدف إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة في غضون ثلاث سنوات.

الخطة الفلسطينية تتضمن مساعي لإقناع واشنطن بضرورة تبني قرار يصدر عن مجلس الأمن الدولي، يطالب فيه إنهاء الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية خلال ثلاثة أعوام، وفي إطار ذلك تستكمل المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية لتسعة أشهر، تمهيداً لإنجاز الانسحاب الصهيوني وفق مدة السنوات الثلاث.

الوزير محمود الهباش قال لصحيفة أردنية، إن تفاصيل خطة عباس سيطرحها الأخير على الوزراء العرب في القاهرة بعد يومين، بغية وضعهم أمام صورة الأوضاع والتحرك الفلسطيني الدبلوماسي على قاعدة التضامن والتوافق العربي لهذه الخطة.

في حقيقة الأمر لن توافق الولايات المتحدة على مشروع قرار يلزم الاحتلال الصهيوني بالتخلي عن أجزاء من الضفة الغربية وتنسحب إلى حدود العام 1967 لصالح دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية، وعلى الأغلب أن المفاوضين الفلسطينيين لن يحققوا اختراقاً إيجابياً على هذا الصعيد.

أضف إلى ذلك أن نتنياهو لا يزال يصر على موقفه بضرورة اعتراف الفلسطينيين بيهودية الدولة، مقابل الاعتراف الصهيوني بدولة فلسطينية مستقلة، الأمر الذي ينسف قيام الدولة الفلسطينية، لأنه ليس هناك فلسطيني عاقل يمكنه الموافقة على شرط نتنياهو هذا.

كل ما يريده نتنياهو هو بقاء المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية حبيسة الطرفين، حتى تستفرد الأخيرة بالطرف الفلسطيني الذي يشكل بالنسبة لها الحلقة الأضعف، وسط طرف أميركي يتحرك على إيقاع الرواية الإسرائيلية، وإسناد عربي أكثر ما يقدمه هو الدعم اللفظي والمالي في أقصى الحدود.

بعد كل ذلك، لماذا يتمسك الرئيس عباس ومفاوضوه بهذه الخطة التي نسفتها إسرائيل قبل أن تخرج إلى الضوء؟ لماذا نواصل التهديد بالانضمام إلى عشرات المنظمات والهيئات الدولية التابعة للأمم المتحدة، بما فيها المحكمة الجنائية الدولية، دون أن نكون قد فعلنا ذلك؟

على الأقل كان يفترض على السلطة الفلسطينية أن تنضم فوراً إلى المحكمة الجنائية الدولية، للتأكد من معاقبة إسرائيل وعدم إفلاتها من العقاب كما حصل مع تقرير "غولدستون"، ثم إن سياسة الجزرة لا تنفع كل الوقت مع الاحتلال الذي لا يفهم إلا لغة العصا.

العصا لمن عصى، وحين يعصي الاحتلال ويتمادى في هذا العصيان فإنه بحاجة إلى من يقومه، والطريقة المناسبة التي يمكن أن تلحق الضرر بإسرائيل هي عبر المحكمة الجنائية الدولية التي من شأنها محاسبة المتورطين على الجرائم التي ارتكبوها بحق أهلنا في الضفة الغربية وقطاع غزة.

إن الاستهتار بهذا الفعل الصهيوني الاستيطاني الإحلالي سيؤدي مع الوقت إلى التدمير الفعلي لمقومات بناء الدولة الفلسطينية المستقلة، وعلى سبيل المثال كيف يمكن فهم اعتبار القدس الشرقية عاصمةً للدولة الفلسطينية بعد تهويدها بالكامل؟

يخطئ المفاوض الفلسطيني إذا التزم بخط التهديد، دون أن يتحرك وبشكل سريع نحو الانضمام الفعلي إلى بعض الهيئات الدولية التي تخدم قضيته في فضح الاحتلال، أما أن نظل ننتظر ما الذي يمكن أن توفره الولايات المتحدة والمجتمع الدولي، فبذلك نكون قد حكمنا بالفشل على عدالة قضيتنا.

في فن القتال حين يكون خصمك قوياً، عليك بالمراوغة والضرب ثم التراجع، إنه منطق الكر والفر، وهذا الذي ينبغي على المفاوض الفلسطيني أن يمارسه، بين أن يواصل النضال الدبلوماسي، وفي ذات الوقت يضر إسرائيل ويفرمل طيشها.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]