لطالما خاض الخائضون في بحث زيف الإدعاء الصهيوني حول ديمقراطية إسرائيل النظام الديمقراطي الوحيد و"واحة الحريات في الشرق الأوسط". ويتمحور هذا النقاش حول ازدواجية المعايير في إحترام حقوق الإنسان تارة وحول التناقض البنيوي بين ادعاء الديمقراطية الإسرائيلي وبين إصرارها على مبدأ يهودية الدولة الذي أسّس ويؤسس لكل مساوئ إسرائيل من الإحتلال والفصل العنصري. أي أن جل الإدعاءات في هذا المضمار تقع في مساحة علاقة المنظومة الإسرائيلية مع غير اليهود وعن كونها دولة محتلة لشعب ووطن، الأمر الذي ينزع أي صبغة أخلاقية لها كادعاء الديمقراطية. إلا أن الحرب العدوانية الأخيرة على غزة تشير إلى تصدع المنظومة الديمقراطية الإسرائيلية داخليًا، في علاقتها مع موطنيها اليهود، أو قل في علاقتها مع ذاتها.
هذا الأمر مثير للإهتمام والإنتباه في أعقاب الارتباك الذي بثته إسرائيل على مستوى القيادة السياسية والعسكرية في الحرب الأخيرة؛ ولكن قبل الخوض في المؤشرات والبوادر التي تشير إلى ذلك، لا بد من وقفة عند متغيرات حصلت في العقد الأخير على تركيبة الساحة السياسية الإسرائيلية والتي أثرت بشكل عميق على تصرفات القيادات والنخب الإسرائيلية من جهة وعلى تصرفات الجمهور الإسرائيلي في تناوله وفهمه للحياة السياسية بشكل عام. فمنذ أن خرج أريئيل شارون من حزب الليكود وأقام حزب كاديما الذي كان من المتوقع أن يحصد ٥٠ عضو برلمان برئاسته، لولا مرضه ودخوله في غيبوبة عميقة؛ طغت على الساحة السياسية ظاهرة الحزب الواحد المتمثل بنجم وبقائد سياسي عريق ومميز بإمكانه أن يخوض انتخابات برلمانية بشخصه، علاوة على سيطرته التامة في اختيار الأعضاء في قائمة الحزب.
"ديكتاتوريون يديرون نظام ديمقراطي"
إذا نظرنا إلى تركيبة الأحزاب الصهيونية اليوم سنرى أن هناك ٥٠ عضو كنيست (يش عاتيد، يسرائيل بيتينو، شاس، ياهدوت هاتوراة وكاديما) لا يتم اختيارهم عبر انتخابات داخلية ديمقراطية لها مرجعيات وقواعد شعبية ومؤسسات. بل هي مجموعة صغيرة جدًا من الأشخاص تقرر من سيكون ممثلا في الكنيست الإسرائيلي وفق حسابات شخصية ودساتير حزبية دكتاتورية تركز في يد رئيس الحزب جميع صلاحيات وآليات اتخاذ القرار في الحزب والتي من ضمنها إقالة أحد منتخبيه. وهناك أبحاث تشير إلى أن غالبية الجمهور الإسرائيلي لا يدرك أنه يصوت لأحزاب في انتخابات الكنيست، بل لأشخاص يتنافسون على رئاسة الحكومة كنتنياهو ولابيد.
ولهذه الحالة تداعيات عميقة على حيثيات إدارة الدولة بشكل ديمقراطي سليم يستند إلى مبادئ ديمقراطية كفصل السلطات والشفافية والمسائلة علاوة على الرغبة الجامحة لدى تلك الفئة الحاكمة في إنتاج ما يسمى 'إصلاح نظام الحكم' الذي هو في الحقيقة نهج يرمي إلى إحكام السيطرة على القرار السياسي، والذي تَمثّل على سبيل المثال لا الحصر، بتمرير قانون "نظام الحكم" في دورة الكنيست الأخيرة، حيث يعزز القانون من سيطرة الأغلبية الحاكمة ويقلص دور المعارضة إلى أبعد الحدود، هذا علاوة على رفع نسبة الحسم التي تهدف بالأساس لإقصاء العرب فعليًا من التمثيل البرلماني، إضافة إلى عدة خطوات وقوانين تعزز السيطرة والتأثير السياسي على السلطة القضائية والدستورية المتمثلة بمحكمة العدل العليا.
هذه التطورات وغيرها شكلت أرضية خصبة لفقدان صواب قادة إسرائيل مما يشير إلى زعزعة المنظومة الديمقراطية الإسرائيلية التي فضحتها رصانة المقاومة الفلسطينية وصمودها في غزة عبر بسالة المقاومة وعمليتها النوعية وثباتها في المطالب السياسية وممارستها المسؤولة في جميع مراحل المفاوضات. فما معنى أن يخفي نتنياهو ويعلون مخططاتهما واتصالاتهما عن وزراء الكابينيت ؟! وفي المقابل يسرب أعضاء الكابينيت محادثات داخلية ومعلومات عسكرية للصحافة بهدف إجهاض عمليات ومخططات خلال الحرب، وما معنى أن يتجاوز نفتالي بينيت صلاحيته عبر التقائه بقادة الجيش على الأرض لإستكشاف معلومات استخبارية وعسكرية لفضح قائد أركان الجيش بيني غانتس، وأن يأتي ليبرمان، حليف نتنياهو - بورقة نقاط تفاوضية من مصادر أجنبية ليحاجج يعالون ويتلف على مخططاته. أضف إلى ذلك استفراد نتنياهو بقرار وقف إطلاق النار وعدم كشفه للجمهور وحتى للكابينت خشية عدم توفر الآلية لإتخاذ قرار بشكل شفاف وتمثيلي، بعد أن أخضعته المقاومة الفلسطينية في غزة للخروج من الحرب بدون أي مكتسبات واضطرته للقبول ببدء فك الحصار عن غزة فعليًا.
"بوق النظام"
وعن دور الإعلام وحريته في النظام الديمقراطي فحدث ولا حرج، فلم يعد الإعلام الإسرائيلي مجندًا فحسب بل أصبحت الرقابة العسكرية التي تضرب بيد من حديد هي من يحدد تصرفات الإعلام حتى في أبسط الأمور كإنتقاء الكلمات والمصطلحات، إضافة إلى تواجد لاعب خطير كصحيفة هي الأكثر رواجًا، "يسرائل هيوم " اليومية المجانية التي تشكل بوقًا لنتنياهو بشكل مباشر. حالة العجز الإعلامي والجماهيري هذه وصلت ذروتها في آخر ساعات الحرب، عندما احتفلت غزة بإنتصار صمود مقاومتها وخروج قادتها للناس، بينما اختفى نتنياهو في تلك الليلة واضطر الإعلام الإسرائيلي للإكتفاء بتسريب يتيم من أحد مستشاريه الذي أكد قبول نتنياهو وقف إطلاق النار.
عجز الحكومة الإسرائيلية وارتباكها في إدارة الحرب في جميع مراحلها وفي تحديد أهدافها وسيطرتها على مجرياتها، هو نتيجة مباشرة لعدم صحة المنظومة الديمقراطية الإسرائيلية حتى على الصعيد الداخلي، ليس فقط في إدارة الدولة والأزمات، بل في تقليص مساحة الحريات وحرية التعبير عن الرأي والممارسة السياسية كما حدث مؤخرًا، وهو مخرج نهائي لصيرورة الفصل العنصري الرسمي التي تؤسس له إسرائيل على جميع مساحة فلسطين التاريخية والتي باتت إسرائيل تؤمن به وتنفذه فعليًا لتبرير استمرار احتلال الشعب الفلسطيني. فهل من الممكن أن تدعي إسرائيل مستقبلا أنها ليست دولة احتلال بل "نظام فصل عنصري ديمقراطي"؟!
[email protected]
أضف تعليق