قبل ملحمة غزة، كان الجدل السائد في أوساط النخب، يدور حول معضلات الانتقال من حالة الأمر الواقع إلى الحركة، متسمًا بالارتباك والحذر. كان لأنصار الأمر الواقع والمعادين لكل أشكال المقاومة مناخ أفضل للدفاع عن حججهم. والحجج هذه تستند في الأساس إلى أن الشعب الفلسطيني لم يعد لديه طاقة على النضال، وليس أمامه سوى الانشغال في حياته اليومية والانهماك في تحصيل لقمة العيش، ومطالبًا بتحمل ذل الانتظار على حواجز نظام الأبارتهايد لساعات طويلة. أيضًا مطالبٌ بتحمل وحشية الاجتياحات الإسرائيلية لبيوتهم والاعتداءات، التي تتسع كلما تجرأ أحد من هذا الشعب، على إحداث ثغرة، مهما كانت صغيرة، في جدار هذا الواقع المهين.

ما معناه كان، ولا زال، مطلوبًا من هذا الشعب أن يقلد قياداته، او تلك المتنفذة، في البلادة وقلة الإحساس وانعدام المروءة.

تقوم فلسفة هذه القيادة منذ تسلمها زمام الأمور بتوافق دولي وإقليمي منذ اغتيال الشهيد ياسر عرفات، على التحاور مع المحتل، ومن يدعمه بالمال والعتاد، نيابة عن الشعب، ولكن بدون الشعب. هذا النوع من القيادة، لا يؤمن بالشعب لأنه يخافه.

لم تؤثر المظاهرات الأسبوعية ضد الجدار، والمحدودة في عدد المشاركين، وعدد الأماكن، المستمرة منذ عام 2004، في سلوك القيادة المتنفذة. وانشغل المراقبون، والمتابعون للشأن الفلسطيني في تحليل ديناميكة الواقع واستشراف انتفاضة ثالثة لا بد آتية. مرت أعوام كثيرة دون أن تأتي. ولكنها أخيرًا جاءت، جاءت في مكان آخر في فلسطين.. وبشكل مختلف عما توقعه المراقبون. جاءت على شكل حرب اسرائيلية عدوانية ومقاومة فلسطينية أذهلت، بمستواها، الشعب الفلسطيني قبل أن تفاجئ العدو.

غير أن المراقبين، لم يخطئوا كليًا. فالانفجار بدأ في الضفة والقدس. واشتعلت المواجهات في العديد من المواقع، وكان لافتًا، تمكن أهالي حيّ مقدسي هو حي شعفاط، من تحرير حيّهم لثلاثة أيام. وهذا قبل أن تنتقل ساحة المواجهة إلى غزة هاشم. والمدهش في الأمر، هو أن قبضة الاحتلال الاسرائيلي على القدس وناسها أشدّ مما هو الحال في باقي المناطق ولهذا معانٍ كبيرة.

لم تكن لتحصل هذه الجولة العنيفة، والعنيفة جدً، لو لم تقدم إسرائيل على اجتياح الضفة وبيوت الناس. لقد أقدمت على عدوانها، تطبيقًا لروح الانتقام الصهيونية المعهودة، واستباقًا لتفاعلات كبيرة في الساحة الفلسطينية، كان يتوقع أن تطلقها حكومة الوفاق بين حماس وفتح والأجواء المواتية الناجمة عنها.

هذه هي ديناميكية الصراع في فلسطين. استعمار استيطاني، مترافق مع نظام فصل عنصري، يُنتج ردات فعل طبيعية من قبل الشعب المقهور. قد يُغلب على أمر هذا الشعب لحين، لأسباب موضوعية تتعلق بمستوى القهر والقمع والحصار، وذاتية تتعلق بطبيعة قيادته. ولكن المقاومة هي أمر طبيعي.

ماذا بعد
هل قصرت معركة غزة الطريق نحو الاستقلال. إنه من الخطا الاعتقاد بذلك. إن قراءة نتائج العدوان على هذا النحو له مخاطر جمة. أولها يعني تبديد دروس الصمود الأسطوري ومعانيه. وبالتالي العودة إلى "العملية السياسية الكارثية". ظنًا أن هذه المعركة كافية، وحدها، لتحقيق الحقوق. إن التسرّع في استثمارها يعني قصورًا في فهم أحوال الحكم في إسرائيل والمجتمع كذلك.

إن إسرائيل، ومفاهيم أمنية راسخة، تلقت ضربة. وهذا ما يُسمى بالنصر الاستراتيجي. ولكن هذا المجتمع الآخذ في التطرف، والذي أظهرت استطلاعات الرأي تعطشه للدم الفلسطيني، يحتاج إلى سنين طويلة أخرى ليستوعب نهائيًا عبثية وعدم جدوى محاولات حكامه للقضاء على شعب مقهور.

سيكون لمعركة غزة، وللجرائم الوحشية التي ارتكبتها إسرائيل، تداعيات استراتيجية، سواء بالنسبة لحركة التحرر الفلسطينية، أو بالنسبة لوضع إسرائيل في المنطقة والعالم. وسنرى ثمار هذه التداعيات في مرحلة قادمة، شرط أن يتواصل الضغط الفلسطيني محليًا وعالميًا، على إسرائيل. وشرط أيضًا أن تطور حماس المقاومة مفهومها السياسي، وعلاقتها التبادلية مع فصائل حركة التحرر الفلسطيني، وما يتطلبه النضال من مستلزمات سياسية مثل التمسك بقيم سياسية مدنية تعطي صورة للجميع باعتبارها جزء من حركة تحرر وطني تبغي حرية الوطن وحرية الشعب وحرية المواطن وليس فصيل له أجندة أخرى.

إذًا أهمية هذه المعركة، ليس أنها قصرت الطريق نحو الاستقلال، بل كونها، قدمت فرصة للقطع مع نهج الاستسلام، وفتحت الباب أمام طريق طويل وشاق، من النضال بكافة أشكاله.

فالسلطة الفلسطينية، تجد نفسها في موقع مرتبك ومتناقض. من جهة، وفي قرارة نفسها، تُحمل حتى حماس مسؤولية العدوان الصهيوني، ومن ناحية ثانية تسعى إلى استثمار صمودها الأسطوري أي صمود غيرها الذي تناهضه الخصومة ليس من أجل تطوير استراتيجية كفاحية بل لتحسين شروط المفاوضات، أو التسوية.

ليست الخطورة في السعي إلى استثمارها سياسيًا لصالح القضية الفلسطينية عمومًا، بل الخطورة هي في الانشغال في هذا الجانب وحده.. بدون الانشغال في كيفية تنظيم صفوف الشعب الفلسطيني في الضفة والقدس وللتهيؤ لخوض نضال شعبي واسع ضد الاحتلال.

صحيح أن إسرائيل تشعر بالقلق وتخشى من توسع دائرة المقاطعة التي تخوضها في الأساس منظمات المجتمع الدولي، الفلسطيني والدولي وهذا أمر هام ولكن هذا لن يخضع وحده إسرائيل. المقاطعة رافعة قوية ولها رجال ونساء مثابرون في فلسطين وفي جميع أنحاء العالم وهم من خارج عباءة سلطة أوسلو، بل مناهضون لها. ولكن حسم المعركة مع نظام الأبارتهايد الصهيوني يأتي عبر الجمع بينها وبين الميدان، خاصة إذا اتخذ الميدان شكل المواجهة الشعبية المدنية، على الأقل في المراحل الأولى. نقول ذلك لأن رئيس السلطة الفلسطينية، ليست لديه الحكمة الكافية ولا الشجاعة للذهاب إلى محكمة الجنايات الدولية. فهو محجم عن الميدان، ومحجم عن المضيّ بعيدًا على المستوى الدبلوماسي الدولي. ولن يتم ذلك إلا بالمزيد من الضغط الشعبي. بالمزيد من الفعل في الميدان.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]