دبت الحماسة الميتة في عروق المجتمع الدولي بعد قرابة خمسين يوماً لاستصدار قرار أممي يوصي بوقف إطلاق النار وفق بنود عدة لا تبدو في مجملها مفيدة للشعب الفلسطيني رغم اشتمالها على بعض مطالبه التي طرحت في مفاوضات القاهرة.

ثمة مخاطر كبيرة تحتوي عليها هذه التوجهات الدولية تتضمن ضمن أشياء أخرى وعديدة آليات مراقبة على إعادة إعمار قطاع غزة تشبه إلى حد بعيد آليات مراقبة وحصار دولية ولكن بصيغ جديدة.

فالمجتمع الدولي سيجد آليات ضمن مبادرات أميركية لضمان ما طالبت به إسرائيل ولم تحققه بالقوة أو بالمفاوضات وهو نزع سلاح غزة من خلال الحد من تطوير هذا السلاح.

ستفشل واشنطن ربما في وضع بند بهذه الصراحة في القرار ولكنها ستعمل على ضمان عدم تمكن الفلسطينيين من إدخال السلاح أو تطويره، بل ومن خلال آليات المراقبة الدولية التي ستأخذ ألف اسم واسم وربما لن تحتوي على كلمة مراقبة بالمطلق سيتم التأكد من أن أي مركب أو مادة يمكن لها أن تستخدم في إنتاج الأسلحة لن تدخل قطاع غزة، حتى الأسمنت سيتم إدخاله ضمن دفعات وكميات محسوبة ومدروسة بل ربما تجري وضع آليات مراقبة على عملية البناء حتى لا تستخدم في غايات أخرى.

ورغم إشارة القرار المقترح إلى السلطة الوطنية الفلسطينية فإن القرار يعالج قطاع غزة كقضية منفصلة وهو ما تهلل له إسرائيل وتطرب، حيث لأول مرة يتم التعاطي مع آليات دولية لحل معضلة جزئية بعيداً عن الكل في الحالة الفلسطينية.

فالسلطة في القرار الأممي مثلها مثل أي طرف آخر يشار له في القرار. والصح في الأمر كان يجب أن يشتمل القرار على إشارة إلى دولة فلسطين العضو في الأمم المتحدة كما يجب ان يشير إلى وجوب توقف الاستيطان وتفكيكه والبحث عن آليات لانهاء الاحتلال وتحديد سقف زمني لذلك.

بيد أن القرار الذي تدعمه قوى أوروبا الكبرى الثلاث لا يسعى إلى الحقوق الفلسطينية بل يسعى إلى كيفية ضمان مطالب إسرائيل بصيغ أخرى. ويمكن لنتنياهو إذا ما تحقق الامر أن يغمز من قناة وزير خارجيته الخشن بأنه قاتل على اكثر من جبهة خلال المعركة.

تخشى إسرائيل من ان عدم إيجاد حل لمعضلة غزة يعيد دائرة العنف مرة أخرى وقريباً، لذا فإن نتنياهو ينظر إلى حل يستطيع أن يصمد أكبر فترة ممكنة.

إن مقايضة الهدوء الذي تسعى إليه إسرائيل ببعض المطالب الفلسطينية وارد لكن تل أبيب تحاول أن تجعل من هذه المقايضة ضمن تصورات دولية اوسع وبالتالي تحول الصراع في غزة إلى صراع يستدعي موقفاً دولياً ملحاً.

يساعدها ذلك في أولاً محاصرة الخصم بمجموعة من المواقف الدولية التي لا تدولن الصراع والحل بقدر ما تجعل من مطلب إنهاء القتال ووضع ترتيبات لذلك ضمن تصور أممي.

إسرائيل لا تسعى لوضع تصور أممي لحل الصراع العربي الإسرائيلي بل هي تاريخياً كانت ضد أية مبادرة دولية في هذا الاتجاه وسعت إلى إحباطها، بل هي قبلت ببعض التدخلات الخارجية في بعض مخرجات الاتفاقات مع الفلسطينيين مرغمة مثلما حدث في بعثة المراقبة الدولية في الخليل وبعد ذلك في بعثة الشرطة الأوروبية على معبر رفح، لكنها هذه المرة مع قرار لوقف إطلاق النار يتعامل بشكل جزئي مع الواقع في غزة وبالتالي لا يتعاطى مع جملة الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني.

إسرائيل تنظر إلى الكثير مما سيشير إليه مجلس الأمن في قراره بوصفها جملة الحقوق المعيشية الإنسانية وليست الحقوق الوطنية.
بمعنى أن أي ترتيبات لتخفيف الحصار تأتي ضمن نسق التفكير في كيفية تطوير حياة السكان في غزة وليس لتأهيل القطاع كجزء من تطوير الكيانية الفلسطينية الموحدة في غزة والضفة الغربية.

كما يساعد القرار الأممي في تخفيف الضغط على كاهل نتنياهو أمام مجلس وزرائه الذي لا يسيطر عليه وأمام الجبهة الداخلية الغاضبة إذا بدا أنه سيعطي الفلسطينيين شيئاً.

المطلوب فلسطينياً إعادة صوغ التوجهات الفلسطينية وتركيز جهود المبادرة في يد مصر، حيث إن المقاربة القطرية والمقاربة التركية هما اللتان انتجتا التوجهات في مجلس الأمن.

يجب إعادة إحياء الجهود المصرية رغم محاولة نتنياهو التملص منها، والعودة ضمن فهم مشترك وتصور فلسطيني واحد.
لقد حقق الفلسطينيون الكثير من الإنجازات رغم الآلام الكبيرة التي تكبدوها في هذا العدوان ورغم قصور تصوراتنا في الكثير عن أن تكون شمولية وأكثر سياسية منها إنسانية، لكن ارتفاع منسوب المناعة الفلسطينية وقوة الردع كانا مهمين في ذلك وإن التفاوض مع العدو لا ينتقص منهما.

إن الذي يضيع هذه الجهود هو أن نصبح في مواجهة العالم كما ترغب إسرائيل.

إن هذا المجتمع الدولي الذي يمكن نعته بأبشع ما يضم لسان العرب من أوصاف للأسف هو من يتحكم بإيقاع السياسة الدولية وليست عواطفنا ورغباتنا، لأن رغبتنا كانت أن كل هذا الإجحاف الذي وقع على شعبنا منذ وعد بلفور إلى الآن أن لا يحدث، لكن هذا شيء آخر.

والشيء الثاني المطلوب وضمن رؤية فلسطينية مشتركة هو تغير بوصلة النقاش الدولي الآن باتجاه تحديد سقف زمني لإنهاء الاحتلال وتجسيد الاستقلال على أن تكون هناك آلية مراقبة دولية لفكفكة المستوطنات.

يجب ضرب الحديد وهو ساخن الآن ومباغتة إسرائيل بهجوم دبلوماسي جديد ينطلق من واقع حال غزة، وبالتالي يتم توسيع المطالب الفلسطينية والخروج من ورطة القرار الأممي إلى قرار لصالح الشعب الفلسطيني انطلاقاً من قاعدة أن على المجتمع الدولي أن يتحمل مسؤولياته.

نعم نحن بحاجة للجنة دولية تقوم بتفكيك المستوطنات وترسيم الحدود وفرض إرادة وشرعية المجتمع الدولي على إسرائيل. خياراتنا الاستراتيجية بذلك تأخذ جوانب متعددة لكنها تصب في ذات الاتجاه.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]