(إسرائيل) كيان مصطنع قائم على استراتيجية مغرقة في اعتماد لغة القوة والسحق، وتبتعد عن لغة التكيف مع شعوب المنطقة أو الاندماج الثقافي والإنساني معها، بل إنها تتجه نحو مزيد من التحوصل والعزلة، وأقدمت على بناء الجدار العازل، وتطرح مبدأ يهودية الدولة، في سياق إيجاد الشعب اليهودي الخالص، الذي يخلو من الجيوب المخالفة في الدين والمعتقد، من أجل ضمان مستقبل الكيان اليهودي الآمن تماماً، ولذلك تتفق كل الأحزاب الصهيونية على استراتيجية دائمة تقوم على اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم وديارهم، وجلب المهجرين اليهود من كل أصقاع الأرض ليحلوا محلهم، ويرون أن هذه المعادلة يجب أن تستمر بوتيرة عالية لأن توقفها عن العمل يعني تهديد مستقبل الدولة اليهودية.
النظر إلى الكيان الصهيوني من هذا الباب يدفع الباحثين الاستراتيجيين إلى التشكيك في إمكانية استمرار هذه الدولة ويشككون في استقرار أمنها، اعتماداً على مخالفتها لمنطق الحياة، واعتماداً على بعض الدراسات والتنبؤات المستقبلية من بعض كبار السياسيين على مستوى العالم، ومنهم وزير الخارجية الأمريكي الأسبق المعروف هنري كسنجر المشهور بدهائه السياسي وسعة اطلاعه، وقدرته على قراءة الأحداث.
ومع ذلك لا أجد نفسي مطمئناً إلى هذه التنبؤات من الناحية العلمية، ولا من الناحية الواقعية كذلك، بالإضافة إلى أن هذه التنبؤات تؤدي إلى مزيد من البلادة الذهنية لدى الأجيال العربية، وهي تشكل نوعاً من دغدغة العواطف، وشكلاً من أشكال القراءة الرغائبية التي تعظم جوانب على حساب جوانب أخرى، وتغفل بعض الحقائق المؤلمة التي يحاول العقل العربي تجنبها في سياق مداراة الألم المبّرح الذي يعيشه المواطن العربي.
الجانب الأكثر بروزاً الذي يستحق النظر، يتعلق بقراءة واقع الصراع العربي –(الإسرائيلي)، والنظر إلى وتيرة التغير في موازين القوى ومراقبة رجحان كفة على كفة، فالقراءة الواقعية منذ عام (1978) وهو تاريخ توقيع معاهدة كامب ديفيد، تشير إلى عدة محطات مهمة، نبدأ بمحطة تبريد الجبهة المصرية عبر توقيع معاهدة سلام دائمة، أدت إلى إخراج مصر والقوة المصرية والجيش المصري من جبهة الصراع إلى وقت طويل جداً، لا يبدو في الأفق أي اشارة تدل على تغير هذه المعادلة في الأمد المنظور.
وهناك محطة تحطيم الدولة العراقية وتدمير أسلحتها، وحل الجيش العراقي، وإغراق الشعب العراقي في حرب أهلية طاحنة، أخرجت القوة العراقية من معادلة الصراع، وأبعدت إمكانية تهديد العراق لمستقبل الأمن (الإسرائيلي) في الأمد المنظور كذلك.
وهناك محطة التخلص من القوة السورية، فقد تم تدمير ترسانة الأسلحة الكيماوية السورية، فضلاً عن الحرب الأهلية الجارية التي أدت إلى تدمير الدولة والمؤسسات، وإغراق الجيش السوري في صراع داخلي طويل الأمد، مما يؤكد عدم امكانية تهديد لأمن (إسرائيل) في المستقبل المنظور أيضاً.
وسبق ذلك تحييد معظم المقاومة الفلسطينية من خلال معاهدة السلام (الإسرائيلية) الفلسطينية التي جعلت السلطة الوطنية الفلسطينية تتبنى خيار المفاوضات خياراً وحيداً، وتنبذ خيار العنف والقوة، وبقي جيب مقاوم واحد في غزة، يتم السعي إلى محاصرته، وربما تسفر الحرب الأخيرة عن هدنة طويلة الأمد في أحسن الأحوال إذا استطاعت المقاومة أن تنجو من خيار نزع الأسلحة.
أضف إلى ذلك أن هناك تصدعاً في الجبهة العربية، في تأييد خيار المقاومة، بل أستطيع القول إن الدول التي تقف مع المقاومة -مثل قطر وتركيا- ليستا مع خيار المقاومة، وإن كانا مع تحسين شروط المفاوضة لصالح الطرف الفلسطيني.
أردت أن أقول من خلال هذا الاستعراض، إن القراءة في المشهد عبر (36) عاماً لا تشير نحو اقتراب زوال (إسرائيل) بهذه السرعة التي يبشر بها الكتاب وإذا أضفنا إلى ذلك ما يتمتع به الكيان الصهيوني من ارتفاع مستوى التعليم والبحث والجامعات، والتصنيع والتقنية، وما يقابله لدى الجانب العربي من تدهور علمي وتربوي، وانخفاض مستوى الجامعات، وتدهور الحالة الاقتصادية والتصنيعية يفرض علينا أن نتمهّل في إصدار الأحكام، وأن نقترب من العلمية والموضوعية في قراءة المشهد من أجل الاسهام في صناعة حالة الوعي واليقظة والابتعاد عن أحلام اليقظة والقراءة الرغائبية.
لا مجال لامتلاك القدرة على مواجهة الأعداء إلّا من خلال امتلاك القدرة على إعداد الذات والشروع في عملية البناء الشامل علمياً وتربوياً واقتصادياً، وامتلاك القدرة على الانتاج والتصنيع وبناء حياة سياسية ديمقراطية قائمة على الحرية والعدالة وينتفي منها الاستبداد والفساد، ووقف معارك الاستنزاف الداخلي.
[email protected]
أضف تعليق