تاريخنا الأدبي المعاصر، وتاريخ شخصي لنا لقرائه من فلسطين والعالم، على مدار زمننا كان زمننا، ولم يزل جزءا من تكويننا الأدبي والوطني والإنساني، فكيف نكون وحدنا بدونه؟ كيف نكون؟ صار منا كما كنا كشعب وقضية وطنية وإنسانية نبيلة منه، وهو الذي كمان يفكر ويشعر بهذا الهمّ: فلسطين.
فلسطين ظلت على مدار حياته همه الشخصي والعام، لم يتصور نفسه أو شعره بدونها، فقط كان يدخل مرحلة ويخرج، يدخل أسلوبا شعريا ويفارق، يدخل التجارب السياسية والإعلامية ويخرج، لكن في كل ذلك لم تخرج منه فلسط
سميح القاسم، وإذا تحدثنا عنه فإننا نتحدث عن أنفسنا كفلسطينيين، عاشوا شعره، جزء من شعره حسب العمر، ولآخرون كثر في العالم من تعرفوا على شعره أن يعيشوا إنسانية شعره التي استحق بها الخلود.
ولنا حياته، وابتسامته وصوته، الذي سمعناه فكان للشعر مذاق آخر، وهو الذي أعلاه في كل العواصم ليعلي فلسطين.
كم أحب سميح القاسم بلاده العربية، أول مرة زار فيها القاهرة، أخذته اللغة العربية في الشوارع والمحلات والناس، بعد طول سجن في فلسطين المحتلة، فلم يكن يستطيع زيارة الدول العربية، مثله كمثل شعب فلسطين داخل الوطن السليب، فهل كان السبب هو الوثائق؟ وهل هكذا هو جزاء من بقي في فلسطين بعد عام 1948؟
كلنا أطفال وفتيان فلسطين قرأنا سميح القاسم، لم نقرأه في كتب المدرسة، بل خارجها، كنا نرى أنفسنا فيه، وبالنسبة لنا، لم نكن نرى فلسطين لا الوطن ولا حياتنا العادية في كتب التعليم، لكننا حين قرأنا شعره قلنا هذا الشاعر يتحدث عنا، نحن هنا، وهو لا يحبنا فقط بل يحترمنا، نحن لسنا ناسا بل شعب مهم، وبهذا فقد شجعنا كيف نكون فلسطينيين ومقاومين ومثقفين.
لقد امتلك القاسم موهبة شعرية فائقة، لكنه لم يعتمد عليها فقط، بل ارتقى إبداعيا لها، لعله أراد الارتقاء لفلسطين القضية والإنسان، فالمتابع لشعره يجد بناء شعريا إبداعيا، كنصوص ودواوين بل داخل القصيدة نفسها، ولم يكرر نفسه، فكان سميح القاسم أسلوبا قائما بذاته ضمن التجربة الشعرية المعاصرة في فلسطين م 1948، وفي فلسطين التاريخية والشتات. فكيف كان ينظم شعره؟
كان يبدأ القصيد ويسير به على مهل، يسافر مع القارئ وربما مع نفسه، ليقول كلمته: الرسالة بما فيها من شعور إنساني، وطني وذاتي، فلم يكن بوسعه أن يضع حدا بين الخدّ وبين التفاح، وبين البحر والتراب:
كنت دوما معجبا بقصيدته: أصوات مـن مــدن بعيـدة، التي فيها يؤكد على البعد القومي وحفظ الوطن والبقاء والمقاومة والثورة والعتاب لمن ترك شعبا وحيدا أمام الريحة!
لعل القصيدة كما تحدثت عن ماض قريب أو بعيد قليلا، ما زالت تتحدث عن حاضر أليم نعيشه في فلسطين، كل فلسطين:
"يا رائحين إلى حلب
معكم حبيبي راح
ليعيد خاتمة الغضب
في جثة السفاح.."
يبدأ الشاعر بهم بالعرب والعروبة، في وعي ظل يلازمه حول الدور القومي، ربما كان يقوى بالعرب عن بعد، على طريقة الفتى الذي قال لمطارديه لي أخوة شداد، فخافوا..ولربما كانت حلب وعدن وأسوان:
"يا رائحين إلى عدن
معكم حبيبي راح
ليعيد لي وجه الوطن
ونهاية الأشباح ..
يا رائحين، وخلفكم
عينَا فتيً سهران
ما زال يرصد طيفكم
قمراً على أسوان ..
قلبي تفتت , والتقى
في روضكم ..ورده
عودوا بها ..والملتقى
في ساحة العوده !"
ظل أمله قائما في هذه القصيدة وغيرها، لعلنا ننهل من هذا الوحي، ليكون وعيا قوميا دائما.
بهذا الوعي على عروبته، نراه كشاعر وكفلسطيني يمتلك القوة والإرادة، للثير العزيمة في شعبه:
"يجيئون ليلا , يجيئون
فاستيقظوا استيقظوا
واحرسوا القرية الخائفه.."
ثم ليؤكد على أهم سلاح للمقاومة لمن بقي في وطنه بعد نكبته؛
"جعلتني ابنها من قرون
أرضعتني البقاء
دفّقت في عروقي الدماء
وهي شاءت فكنتُ كما آمنتْ أن أكون
وهي شاءت ..فكان الكتاب
نعمة في يديّ
وهي شاءت ..فكان الشتاء السخيّ
وانتهى العدْو خلف السراب !"
ارضعه وطنه البقاء في زمن الاستلاب، فكانت اللغة والكلمة والكتاب وديوان الشعر حضورا للإنسان، تأكيدا على للقوة والضعف جوانب أخرى، وأن قوة الإنسان هي الأهم وجودا وخلودا..وبهذا الشعور يثور:
"قومي اشهديني ..صاعداً كالريح، من كهْفي الذليلِ
قومي اشهدي عينيّ، مصباحين في الليل الطويل
آتٍ لأحصد حنطتي، وأعيد ترتيب الفصول.."
ونحن نقرأ نلك الأبيات نتذكر أنه على عدة دورات لمؤتمر هرتسليا الإسرائيلي، كان فلسطينيو عام 1948 هم القضية الأكثر حضورا استراتيجيا في إسرائيل، ولأجل ذلك رأى الغزاة فيهم خطرا، لدرجة إبداء الندم على عدم طردهم وتهجيرهم، وما تصريحات ليبرمان إلا تجليا لهذا الشعور الصهيوني.
فنراه هنا في ظل وعيه على مأساته، مدركا للضوء في مأساة فلسطين الطويلة:
"مقطوعةَ الضفائر
في الوحل، يا حبيبتي
في الشوك، في الحفائر
مقطوعةَ الوريد ياحبيبتي
مقلوعة الأظافر !
ولم يزل جبينك المناره
في عتمة الضمائر
ولم يزل صوتك يا حبيبتي
فضيحة القاتل ..بعد ليلة الخناجر
ولم أزل أنتظر الإشارة"
لأشعل المجامر
لأنني مازلت يا حبيبتي
أومن في فجيعتي
بالضوء ..بالإنسان ..بالحضاره !"
هي نظره الإنسان كما نرى والحضارة، فم يبقى ولا يستسلم هو المؤمن بالإنسانية والحضارة، لذلك فإن يبقى ويقوم الغزاة.
وكما بدأ بالعروبة، فإنه هنا يختتم بها ولكن جعل فضاءه الإنسانية كلها، كإيحاء المفجوع عن مسؤولية الآخرين تجاه المأساة الفلسطينية الحاضرة:
"مَرُّوا على بابي مع الليل
مروا وما دقوا
ويلي إذا لم يرجعوا، ويلي
سيميتني الشوق !
مروا، وكنت وراء نافذتي
جرحاً على خشبه
لم يسألوا أغراب ناحيتي :
يا ناس ! من صلبه ؟"
لقد اهتم الشاعر كثيرا بالبعد القومي والإنساني دائما، كشاعر قومي وأممي، لم تصرفه الأممية عن القومية أبدا، فليس هناك تناقض أصلا بينهما. هكذا هو وعي الشاعر وشعوره.
لعلنا نحمل هذا الوعي والشعور ونحن نواصل بقاءنا في فلسطين، في الجبال والهضاب والسهول، في الغور، في الصحراء، وعلى شاطئ البحر..
لقد ظل الشاعر ينادي، وهذا قبس من أصـواته مـن المــدن بعيـدة والقريبة. كان وفيا ولم يزل، وبهذا استحق سميح القاسم الخلود إنسانيا ووطنيا وعالميا وإبداعيا.
[email protected]
أضف تعليق