نص كلمة التأبين في مراسم الوداع الأخير للشاعر الكبير سميح القاسم- الرامة 21 آب 2014(
اليوم نودِّع سميح القاسم الجسد في تراب الجليل، ونودِّع حبره المسفوح من دم قلبه في دمنا، ونتكأ على قامته الأدبية والفكرية والإنسانية، كي نكون أقْوَمُ عودا وأبهى صموداً.
شكرا لك أبا محمد.. شكرا أبا وطن.. شكرا أبا وطن محمد.. شكرا سميح القاسم.. الاسم الشامخ من أسماء فلسطين
"أبشر ومثلك للبشائر
ما بين الحرائر والسرائر
وانفض تراب الموت وانهض من ضريحك يا ابن عامر"
انهض وأنظر حولك.. انهض وأنظر شعبك.. انهض وأنظر محبيك... اجتمعوا من كل حدب وصوب حول جسدك الواهن الزائل المسجى، وحول إرثك العظيم الجميل النفيس الباقي أبد الدهر.. ليرسموا بأسمائهم خارطة لفلسطين ,مصنوعة من مادة الحبّ،
يا ابن فلسطين أبشر..
سميح الشاعر والمبدع أولا.. ابن الشعب الفلسطيني وابن الأمة العربية، وابن الإنسانية التقدمية وابن الثورة العالمية، وهو العضو القيادي في الحزب الشيوعي لسنوات طويلة، ونائب رئيس تحرير جريدة "الاتحاد" اليومية، ومحررها البارز عندما كانت نصف اسبوعية، وأحد أبطال يوم الأرض الأول، وأحد مؤسسي الجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة البارزين.
وهو الذي كتب نشيد الجبهة، الذي ما زالت الأجيال تردده حتى يومنا:
نحن نوّرنا السبيل في لهيب المستحيل
بين نقب وجليل دمنا الحر ينادي
جبهتي يا ظافرة انت روحي الثائرة
واسلمي يا ناصرة واسلمي لي يا بلادي"
*****
سميح القاسم أحب الشباب المناضل وتحيز له، وكم أنا شديد الاعتزاز بالرسالة التي وجهها سميح إلى رفاقنا في الشبيبة: "من المحيط إلى الخليج تجد الشرفاء والأوفياء والمخلصين لشعبهم ووطنهم وقضايا شعبهم الحارقة، لكنّي أقول لكم أنتم أشرف الشرفاء وأوفى الأوفياء من المحيط إلى الخليج، ولا تصدقوا كلّ المزاودات عليكم، واستمروا في دربكم المشرّف".
وهو الذي آمن بنقل الراية من جيل إلى جيل كمفتاح للحياة والاستمرار:
كذب زعم الزاعم أنّك مسكونٌ بالموت
يا شعبي
حيٌّ حيٌّ أنت ..
يَدُك المرفوعة في وجه الظالم
راية جيل يمضي
و هو يهز الجيل القادم:
"قاومتُ.. فقاوم!"
سميح بسخريته اللاذعة التي تعبر حقيقة مكنون ضميره كان يرى قضية الشعب اولا وثانيا وأخيرا فهو يقول، "لدي مرضان، واحد خبيث جدا وهو الاحتلال الصهيوني، والثاني بسيط جدا اسمه السرطان، وأمني النفس أن نشفى من الاحتلال والطائفية والاقليمية".
سميح القاسم انتمى لشعبه ولقضيته، ولذلك كان طبيعيا أن يكون من أوائل الرافضين للخدمة العسكرية الاجبارية ضد أبناء شعبنا المعروفيين، ومن مؤسسي لجنة المبادرة الدرزية.
سميح القاسم يلتحق اليوم بأعلام الكفاح القومي الثائر من أبناء طائفة الموحدين الدروز ليضاف اسمه إلى جانب الأسماء العظيمة، وعلى رأسهم سلطان باشا الأطرش وكمال جنبلاط .
******
بدأت علاقتي به دون علمه، فأنا أحمل في قلبي ذكريات صبي كان عمره 13 عاما أجلس تحت شجرة التوت في فناء ما كان بيت أهلي في صفورية، وقد القيت على نفسي وظيفة غير مدرسية، بأن أحفظ عن ظهر قلب القصيدة الأولى في الديوان الذي صدر لتوه (دخان البراكين)
"شاءها الله شهية
شاءها الله فكانت
كبلادي العربية
شعرها ليلة صيف
بين كثبان تهامة
فمها من رطب الواحة في البيد العصية
عنقها زوبعة بين رمالي الذهبية
صدرها نجد السلامة
يحمل البشرى إلى نوح
فعودي يا حمامة"
الآن وقد جفت التوتة التي أمَضّها تلكّؤ أهلها في العودة إلى تفيّؤِها، ليس لنا إلا أن نتفيأ بشعرك الواثق بحتميات التاريخ، وأن نتواعد مع الحمامة التي تحمل البشرى إلى نوح، وأن نمضي إلى وطن نحمل ترابه في اكُفّنا، ويُقال اننا سرقناه من ساحة دارنا.
******
عندما جرى لاحقا، مع مرور الزمن والعمر، تكليفي بمسؤوليات أتشرف بحملها، كنت أعود إليك من حين إلى حين لآخذ رأيا ومشورة ونصيحة... من مسألة التحالفات إلى مسألة الانتخابات، إلى موقف في قضية شائكة.. وإن أنسى لا أنسى لقائتنا التقليدية في بيتك قبل كل انتخابات برلمانية مع عدد من الأصدقاء المبدعين، إذ كنت تستل قلمك لتكتب بضميرك عريضة الدعم للجبهة وتتوجها بتوقيعك ليكون كما أنت أولا.
وإن أنسَ لا أنسَ نصيحتك التي تنضح بالإنسانية الواثقة والوطنية الواعية، يوم فكرت في السفر في وفد برلماني إلى معسكر أوشفيتس في اليوم الأممي لهزيمة النازية فنصحتني وشجعتني، لا بل رميت عليّ عباءتك وكتبت بقلمك العظيم: على بركة الله يا محمد بركة.
فلسطين ليست محرجة بإنسانيتها.. انسانيتنا تبزغ خضراء خضراء، من قلب محرقتنا وأشلاء اطفالنا في غزة ومن أشجار الزيتون المعمرة، التي قصف الغزاة عمرها في الضفة ومن أنّات المؤمنين من أقصانا إلى قيامتنا، انسانيتنا هي اثباتنا على أن محرقتنا مهزومة بانتصار انسانيتنا وأن انسانيتهم مهزومة لأنهم لن يتعلموا من محرقتهم.
"طريقكم وراءكم
وغدكم وراءكم
وبحركم وراءكم
وبرّكم وراءكم
ولم يزل أمامنا
طريقنا
وغدنا
وبرّنا
وبحرنا
وخيرنا
وشرّنا
فما الذي يدفعكم
من جثة لجثة..
غزة تبكينا
لأنها فينا"
******
غزة يا حبيبتي... يا أرض المحرقة العصرية.. غزة أيتها المصابة بعزّة الشموخ وأطنان الكبرياء لتهزم أطنان المتفجرات.. لك تحية ودمعة، وعهد سميح وعهدنا أن لا تكوني وحدكِ.
سميح القاسم أيها الشاب الجميل شَعْرُك سيظل يطير في هواء الوطن وشِعُرك سيظل يرفرف على شرفة هذا الوطن.
يوم فارقت الحياة عندما عدت من بيتك إلى بيتي في المساء المثقل برحيلك، راودتني فكرة كنسمة صيف مسائية وأنا على شارع عكا صفد: 60 عاما على الاقل وهو ينثر روحه وهواجسه وجنون شعره على هذا الطريق، فهل معقول ان لا تترك روحه اثرا على هذا الهواء؟
أثر روحك يا سميح القاسم منثور في هواء الوطن المركب وفي هواء المخيم والمنافي: المجرد من الأمل حينا، ومن الانسانية أحيانا، فكان الشعر- شعرك هو الأمل، ولذلك فان أول المقاومة المعاصرة كانت شعرا.
ليس لهذا نحبك ولا لذاك.. إنما لأن خارطة فلسطين ناقصة من دونك.. وأنت المقيم الأبدي على خاصرة جبل جميل من جبال فلسطين وأنت المقيم الأبدي على حافة نهر العطاء لشعبك، وأنت المقيم الابدي في موقع القلب عند ضفة بيت الشعر..
سنظل نمشي معك منتصبي القامة. مرفوعي الهامة
في قلوبنا قصفات الزيتون وعلى أكتافنا نعوشنا
أبدا على هذا الطريق شرف
السواقي انه تفنى فدا النهر العميقِ
[email protected]
أضف تعليق