صد العدوان الإسرائيلي وكسر شأفته، يعتبر إنجازاً لا يُعلى عليه، حيث تمكنت المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حماس، من أن تقرر رؤيا شعب، لديمومة فلسطينية، من خلال تحقيق أهداف عسكرية فائقة، وبلورة أهداف سياسية محددة بشأن مستقبل القضية الفلسطينية، قابلة للتطبيق وإن كانت بحاجة إلى المزيد من الجهد والوقت، بحكم الوقاع والمتغيرات التي تجتاح العالم على مدار الوقت.

إنجاز آخر، تمثل في انتاج وفد فلسطيني موحّد شمل كافة الفصائل الفلسطينية، باعتباره جهداً خارقاً وذخراً استراتيجيا حيوياً، وله مردوداته الإيجابية على الصعيدين المحلي والدولي، وسواء على الصعيد التفاوضي بشأن العدوان الإسرائيلي وتوقيع اتفاق وقف النار، أو على الصعيد السياسي الخاص بالعملية السياسية التي تخوضها السلطة الفلسطينية على مدار عقدين من الزمن مع الجانب الإسرائيلي، بمعزل عن حركات فلسطينية معارضة، حيث كانت الدول الغربية الفاعلة، تتعذّر بأن هناك انقساماً فلسطينياً، يحول دون قدرة السلطة الفلسطينية على تحقيق اتفاق.
إنجاز آخر أيضاً، وبناءً على القوّة والإصرار، اضطرت مصر إلى الأخذ بمتطلبات المقاومة وشروطها التي وضعتها أمام عينها، بعد أن أعلنت القاهرة مراراً، بأن مبادرتها غير قابلة للتغيير، تحت أيّة ظروف، الأمر الذي جعل الإسرائيليون يمتعضون من التغيّرات المصرية، بعد أن قبلوا بنسختها الأولى منذ البداية ومن دون تفتيشها أو تفحّص بنودها.

غير أنه يُلقي على المقاومة وبخاصةً حماس، إظهار نفسها وكأنها تستجدي وقف النار، وضرورة أن يتلوه اتفاق دائم، على الرغم من إظهارها على مدار أيام العدوان، بأن ليس هناك ما تحرص عليه وتخشاه، بعد أن كانت إسرائيل هي التي تتصبب عرقاً، أثناء توسّلها من أجل الحصول على تهدئة، بسبب حصولها على الضرر الأكبر، والذي طاف على كافة مستوياتها السياسية والعسكرية والاقتصادية، ما يجعلها تجِد بالسعي أكثر نحو تحقيق اتفاق وقف النار كلما زادت أيام العدوان، وكانت على أهبة واستعدادٍ كاملين، لتقديم تنازلات مهمّة، وحتى فيما لو تعارضت مع إرثها السياسي والعسكري.

ففي الوقت الذي نشاهد فيه القيادات الفلسطينية تقترب أكثر فأكثر نحو جعل الحرب وراء الظهور، قبل الحديث عن جلب تنازلات إسرائيلية، نجد أن جهات مسؤولة إسرائيلية تسعى إلى الابتعاد أكثر عن إمكانية توقيع اتفاق، وتفضّل السكوت من جانب واحد، على أن يتم التنازل عن أيّة جزئية لا تنتفع منها إسرائيل جيّداً من الآن فصاعداً.

كانت جهات فلسطينية، قد أغرقتنا بالحديث عن احتمالات كبيرة بشأن التوصل إلى اتفاق، حتى على الرغم من أن جميع العروض التي تم تقديمها للوفد الفلسطيني المفاوض لم تلبِ طموح المطالب الفلسطينية، ولم ترقَ إلى تطلعاتها، متجاوزين الرؤية المصرية التي إلى الآن لم تأمل بعد، في حصول اختراقات مهمّة وسريعة، بسبب خلافات كبيرة، ما زالت قائمة حول مختلف المواضيع المتبادلة، والتي لا يوافق عليها الطرفين منذ البداية، ففي الجانب الفلسطيني، تحدثوا عن أن لديهم أمالاً كبيرة في التوصل سريعاً إلى اتفاق قبل انتهاء التهدئة – أي قبل أن ينتصف ليل الاثنين - وبدرجةٍ أعلى، التوصل قريباً جداً إلى وقف (دائم) لإطلاق النار، واعتبار أن الحرب أصبحت في الخلف، وبأنه لا يوجد خيار أمامهم سوى التوصل إلى اتفاق.

الإسرائيليون إلى هذه الأثناء، لا يزالون يُفضلون حصول تفاهمات فقط على أكثر تقدير، ويستبعدون إقدامهم على التوقيع على أيّ اتفاق، وكان هذا الاستبعاد قد تصدّره معظم وزراء في الكابنيت - المجلس الإسرائيلي المُصغّر للشؤون السياسية والأمنية -، وعلى رأسهم وزير الاقتصاد الإسرائيلي "نفتالي بينت" الذي سعى منذ البداية إلى إفشال أيّة مساعٍ لوقف إطلاق النار مع حماس، وكان يفضّل العبور إلى القطاع والقضاء عليها وتهديم أسلحتها، بسبب اعتقاده بأنها هي سبب بلاء إسرائيل، وأن بناء أيّة اتفاقات معها سيبعث على القلق المتزايد وحسب. ولكي يكون كلامه مسموعاً، قام بالتهديد صراحةً، بأن لا حاجة لاستمرار حكومة "بنيامين نتانياهو" التي تحارب حماس بيد وتُموّلها باليد الأخرى، وأوعز بأنه يجب على إسرائيل أن لا تتوصل إلى تسوية معها، بل أن تفرض عليها شروطاً أحادية الجانب، وتعهّد في الوقت ذاته، بأنه سيعارض أي اتفاق يُعرض عليه، ودعا زملاءه في المجلس الوزاري إلى معارضته أيضًا.

وكان وزير الخارجية "أفيغدور ليبرمان" قد أعلن هو الآخر عن معارضته لأي اتفاق مع الفلسطينيين، في حال لم يتم تنفيذ الاشتراطات الإسرائيلية – وهي تعجيزية- وعلى رأسها استعادة جنودها المفقودين لدى حماس. وكان وزير المواصلات "يسرائيل كاتس" قد عبّر عن تشاؤمه في إمكانية أن تحقق مفاوضات القاهرة أيّة نتيجة، مطالباً بضرورة استمرار الاستعدادات للعودة إلى مواصلة الحرب واستعادة زمام المبادرة.

هذه المواقف والتهديدات المُرفقة، وبإضافة حجة عدم قبول اشتراطات المقاومة، وعدم إحرازها اشتراطاتها وبضمنها متطلبات الأمن الإسرائيلي بشكلٍ عام، جعلت "نتانياهو" الخائف من فقده عرش إسرائيل، بأن يحسم أمره باتجاه رفض التوقيع بشكلٍ نهائي على أيّ اتفاق، وحتى في إطار المبادرة المصرية، بحجة أنها لا تلبي مطالب الأمن الإسرائيلية، ولم توضح آلية تنظم حركة المعابر بشكلٍ كافٍ، وتفضيله إتّباع خطط ذاتية أخرى، وأهمّها تطبيق وقف القتال من طرف واحد، توسع إسرائيل من خلاله، إدخال مواد إغاثية وإنسانية إلى داخل القطاع، بضمان الجيش الإسرائيلي.

وفي حال حصول مثل هذا الأمر، فإنه لا يتوجب علينا أن نتفاجأ أو نحمل همّاً كثيراً كان أو قليلاً، بسبب أن ذلك الاتجاه، لن ينقص وزناً، من إصرارنا على ضرورة نزع الأهداف والحقوق التاريخية المسجّلة في أنحاء الأرض، والتي نسعى إليها على مدار حياتنا، كما يجدر بنا ضمن هذا السياق، الانتباه أولاً والحذر ثانياً، فيما لو أصرّت حكومة "نتانياهو" نحو الاكتفاء بتطبيق خططها الرامية إلى الإفلات من التوقيع على اتفاق، من أن هذا الإصرار ما نتج عن الضغوطات والتهديدات المحلية الواردة من داخل الكابنيت أو من خارجه وحسب، وإنما نتج عن مُرغّبات سياسية وأمنية وحتى اقتصادية خارجية أيضاً، ولذا يتوجب علينا التحرّك ضمن هذا الإطار. 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]