تتعاظم المخاطر التي تواجهنا وتتراكم الأعباء على كواهلنا، نحن أبناء الشعب الفلسطيني الباقي في وطنه (منطقة1948)، بحيث أصبحت هذه المخاطر، خاصة في الآونة الأخيرة، تشكل هاجساً يومياً لنا ولأبنائنا، وتهديداً لأمننا الجماعي والفردي. لم يعد ممكناً لمن حاول، من فلسطيني الـ48، حتى الآن أن ينأى بنفسه عن الصراع المرير الدائر بين الشعب الفلسطيني بحركته الوطنية، والنظام الكولونيالي العنصري منذ أكثر من مائة عام، ظناً منه أنه سينجو من تبعات هذا الصراع.

ها نحن جميعاً، نكتوي بالمزيد من الأّذى من موجة العدوان الإرهابي الجديدة على شعبنا في قطاع غزة والضفة الغربية، بما فيها القدس. هذه الموجة التي بدأت تكتسح حياتنا داخل الخط الأخضر، منذرة بدخولنا مرحلة جديدة حرجة تحمل في طياتها مخاطر أشد وأكبر. في السنوات الأخيرة تتسارع عملية محو الفروق في التعامل بين هذا التجمع الفلسطيني وبقية شعبنا من جانب نظام الأبارتهايد الصهيوني. الجديد في الأمر أن المجتمع الصهيوني الذي تفاقمت نزعته الإجرامية بفعل التعبئة العنصرية المتراكمة، انخرط في ماكنة القمع المباشر والاعتداء اللفظي والجسدي. وزراء صهاينة يحرضون على القتل والمقاطعة الاقتصادية، وجماعات من المجتمع الصهيوني يبحثون عن عرب في الشوارع والمطاعم والجامعات وأماكن العمل ليعتدوا عليهم.

ليست هذه السياسة المعادية جديدة، فالدولة العبرية رسمت منذ اليوم الأول لقيامها توجهات وسياسات تحولت فيما بعد إلى مخطط محكم ومرسوم، هدفه احتواء وإضعاف "الأقلية الفلسطينية"، اقتصادياً، وثقافياً وسياسياً وتحديها عن الصراع والنضال. وقد منحت الدولة أبناء وبنات "الأقلية الفلسطينية" مواطنة (شكلية في الأساس) بعد أن ضمنت طرد الأغلبية العظمى من أبناء الوطن، وبعد أن لم تعد هذه الأقلية تشكل تهديداً (آنذاك) على يهودية الدولة، أو على الأغلبية اليهودية الصهيونية، وعلى توزيع الموارد. أيضاً كان منح المواطنة مدفوعاً بالحاجة إلى نيل الشرعية الدولية التي تنص أعرافها على معاملة جميع المواطنين بالمساواة، شرعية منحت ظلماً لكيان استعماري استئصالي قائم على أنقاض شعب أصلاني.

نجاة من الطرد وصمود في الوطن

رغم أن العرب الفلسطينيين في إسرائيل فقدوا حتى الآن حوالي 93% من أراضيهم، بسبب مخططات المصادرة والنهب، وبالرغم من تشويه مظاهر العمران وحشرهم في غيتوات فاقدة لأفق التوسع والتطور ورغم كل إجراءات القمع والملاحقة، إلا أنهم نجحوا في البقاء، والأهم في تحقيق إنجازات هامة ونوعية على المستوى التعليمي، الثقافي والاجتماعي، وإلى حدٍّ ما الاقتصادي، إنجازات فردية في الأساس. لقد كونوا أحزاباً، وأقاموا مؤسسات، وخاضوا نضالات سياسية وشعبية نوعية، تمكنوا من خلالها من كسر طوق الجيتو والتجاهل والجهل بواقعهم، من جانب المحيط العربي، والمحافل الدولية. كما تواصلوا ويتواصلون، مع نضال شعبهم من أجل الحرية والاستقلال، وبرزت بينهم حركات وطنية أصيلة ارتبطت فكرياً وسياسياً مع أوساط في الحركة الوطنية الفلسطينية خارج الخط الأخضر. هناك المئات منهم انضموا بصورة فردية، إلى التنظيمات الفلسطينية المسلحة، على مدار عمر النكبة، مجسدين قدراً عالياً من التضحية، غير أن الغالبية الساحقة من هذا الجزء من شعبنا، وبجميع قواه السياسية الوطنية، اختارت المقاومة السياسية والشعبية والثقافية بصورتها المدنية، ضد مخططات الدولة العبرية.

لم تتمكن إسرائيل من شلّ قدرتنا على الفعل عبر اعتماد سياسة الاحتواء والإضعاف، ولا إجبارنا على القبول بالفتات، ولم تتمكن من تكريس دونيتنا لفترة طويلة. ففترة الضعف والسلبية لم تمتد لأكثر من بضعة سنوات خاصة فترة الحكم العسكري. وحتى هذه الفترة تخللتها نشاطات سياسية وثقافية مقاومة، وأسست لمرحلة نضالية لاحقة تتوجت في هبة يوم الأرض عام 1976 وما تلاها من سيرة نضالية متراكمة. ولم يكن ذلك بدون صراع مع المخاتير والقيادات التقليدية أو مع نزعات الأسرلة اللاحقة. ولكنها (إسرائيل) تعود الآن إلى سياسات القمع السافرة القديمة.

قوة المجتمع في تنظيمه

لم ينهض أي مجتمع في العالم بدون مؤسسات، وبدون مؤسسة جامعة تؤطر الجميع في إطار اجتماعي يُمكّن أفراد المجتمع عبر نخبه المتعلمة والقائدة من إدارة شؤونهم الخاصة، وكذلك مواجهة المخاطر الخارجية. فكم بالحري عندما يدور الحديث عن مجتمعنا الفلسطيني داخل إسرائيل، الذي يتعرض للنهب والإفقار والحصار. إن حاجتنا لتنظيم حقوقنا كمجموعة قوية تزداد إلحاحاً كل يوم.

يواجه مجتمعنا اليوم حالة خطيرة متقدمة من العداء والتحريض والمقاطعة من قبل المستوى الرسمي ومن المستوى الشعبي في إسرائيل. ولا نستطيع أن نترك الأجيال الصاعدة، أبناءنا وبناتنا، في وضع يبدو وكأن لا أفق لهم للخروج منه. هم يحتاجون إلى عنوان، أو مرجعية سياسية-قومية فلسطينية، حقيقية. لدينا طاقات كبيرة، علمية، وثقافية، ووزن عددي، لا بدّ من تجميعها وتنظيمها لتصبح قوة حقيقية، توفر الحماية لنا ولأبنائنا وبناتنا.

كل ذلك يحتاج إلى تقوية المؤسسات التي بناها شعبنا على مدار عشرات السنين رداً على حاجات كانت تنشأ في خضم مسيرة الصراع مع المؤسسة الإسرائيلية. إن أهم هذه المؤسسات التي تحتاج بإلحاح إلى تقويتها هي مؤسسة لجنة المتابعة العليا. هذه المؤسسة، ليست لديها أسنان ولم تعد تفي بالغرض. وهناك إدراك متزايد بأن استمرار الحالة الراهنة لهذه المؤسسة، هو استمرار وتعميق للأزمة، وتوسيع الفراغ الخطير، خاصة وأن مؤسسات أي مجموعة قومية، أو إثنية المؤسسات، تحتاج إلى تطوير دائم وتكييف مع المهمات المستجدة أمام المجتمع.

لقد نشأت هذه اللجنة أوائل الثمانينيات كلجنة تنسيق بين الأحزاب ورؤساء السلطات المحلية لمواجهة التمييز العنصري في الميزانيات وفي مجال الأرض. غير أنه على خلاف الأقليات القومية، أو المجموعات القومية في العديد من الدول، خاصة الغربية، لم تتحول هذه اللجنة إلى قيادة قومية جامعة قومية منتخبة، أي لم ترق من لجنة تنسيق إلى لجنة قائدة، وموجهة وملهمة للجماهير. وقد رأينا مؤخراً ارتفاع الأصوات الناقدة، وتجاوزها من قبل أبناء الجيل الجديد الذين بادروا وأبدعوا وانخرطوا في مواجهات مع قوات القمع على خلفية سياسات النهب والتهويد والقتل. وينتظر أن يكون لهذا الجيل دور طليعي في عملية إعادة البناء، وفي مأسسة علاقة الفلسطينيين داخل الخط الأخضر مع باقي شعبنا الفلسطيني في كل مكان، ومع حركته الوطنية الفلسطينية التي تعيش على أعتاب مرحلة جديدة.

نعم لدينا صراع من نوع آخر هنا، نحن أصحاب الوطن، الذي تغتصبه قوة استعمارية غربية (الحركة الصهيونية) حولتنا إلى أقلية داخلها. ولكن هذا لا يُبدل القاعدة التي تقول إن لأي مجموعة بشرية ذات خصوصية قومية تعيش في ظل دولة ذات أغلبية معادية، أو مهيمنة، الحق والواجب في أن تبني قيادة قومية خاصة بها، ويكون لها مؤسسات قومية فرعية. أهم هذه المؤسسات صندوق قومي، يشارك في تمويله أبناء وبنات المجموعة القومية، رجال الأعمال أو المواطنون أنفسهم.

لقد تمكنت الحركة الصهيونية ضمن مشروعها الاستعماري لإقامة دولة في فلسطين، من بناء مؤسساتها وقياداتها القومية وفي مقدمتها صندوق قومي (الصندوق القومي اليهودي)، ومؤسسات أخرى قبل قيامها عام 1948. كانت الحركة الصهيونية قد بنت عناصر الدولة منذ العشرينات من القرن الماضي. ومن أسباب نجاحها في تشكيل هذه المؤسسات، ليس فقط الدعم الاستعماري الغربي الذي بدونه ما كان لإسرائيل أن تقوم، بل لأن قيادات الحركة الصهيونية وكوادرها جاؤوا من مجتمع حديث (الأوروبي) الذي كان قد أبحر عميقاً في العلم، والتنظيم والإدارة العصرية، أي تنظيم المجتمع وإدارته إدارة عقلانية وحديثة.

ليس هدفنا هنا، إقامة دولة مستقلة ولا انفصالا عن الدولة العبرية، لأن ذلك غير ممكن، إنما هدفنا هو تنظيم وتجميع طاقاتنا، وابتكار الطريقة الإدارية المناسبة والحديثة للقيام بذلك، ولنتمكن من ممارسة حياتنا وحقنا في التطور والتقدم، كمواطنين وكجزء من شعب. ويمكن الاستعانة بما قدمته وثائق التصور المستقبلي، التي تحولت إلى أرشيف منذ عام 2006. وحان الوقت لترجمتها عبر الاستعانة بأصحاب الخبرات.

يحظى موضوع إعادة بناء لجنة المتابعة العليا، وتقويتها وتحولها إلى عنوان قيادي حقيقي للجماهير العربية بشبه إجماع في صفوف الفلسطينيين في إسرائيل. هذا ما دلّت عليه استطلاعات الرأي في السنوات الأخيرة. ويعتقد غالبية المواطنين بضرورة انتخابها مباشرة، وإن كان الكثيرون، إن لم يكن الجزء الأكبر، غير ملمين بحيثيات انتخاب جسم تمثيلي لأقلية قومية، أي ما معنى الانتخاب؟ وكيف يتم؟ وهل هذا ممكنٌ؟ وكيف يكون ردّ الدولة على ذلك؟ يُمكن إحالتهم إلى تجارب مجموعات قومية أو اثنية في دول غربية حديثة، بلجيكا، كندا، جنوب تيرول (شمال إيطاليا) وغيرها.

أما على مستوى مركبات الخريطة الحزبية، فإن هذا الأمر، أي انتخاب اللجنة مباشرة، وتحويلها إلى برلمان قومي لفلسطينيي الـ48، لا يلقى الإجماع، بل يمكن القول إن هناك ثلاثة اتجاهات: الاتجاه التقليدي والذي تمثله الجبهة- الحزب الشيوعي (التنظيم العربي- اليهودي)، وجزء من رؤساء السلطات المحلية، الذي يقول بإبقاء اللجنة كلجنة تنسيق مع بعض التحسين لأسباب تتعلق برؤية الجبهة الديمقراطية السياسية والفكرية. وهذه الرؤية مدفوعة بالخشية مما تسميه الانعزال القومي عن المجتمع الإسرائيلي. وأعتقد أنه حان الوقت لإدارة نقاش حقيقي، مسؤول، بعيداً عن السجال وتسجيل المواقف، مع قيادات الجبهة وكوادرها حول الطريقة الأفضل لإدارة وقيادة مجتمعنا الفلسطيني. ويشمل ذلك العلاقة مع المجتمع الإسرائيلي، وخاصة الأوساط الجريئة في نقدها ومناهضتها للنظام العنصري القائم. الاتجاه الثاني تمثله الحركة الإسلامية الجنوبية أو أوساط فيها، ويقول بتقويتها حالياً عبر انتخاب رئيس اللجنة من المجلس المركزي (54) عضواً، ولكن بدون طرح صيغة واضحة كيف يُمكن أن يقوي هذا الانتخاب وحده لجنة المتابعة. والاتجاه الثالث الذي يطرحه التجمع بصورة منهجية منذ ظهوره على الساحة، وتؤيده بدون تحفظ الحركة الإسلامية الشمالية وحركات صغيرة أخرى، ويقول بالحاجة إلى انتخاب لجنة المتابعة العليا مباشرة من المواطنين العرب، لأن ذلك يتضمن تفعيل المجتمع في عملية بناء لجان شعبية تعبئ وتنظم الناس للانتخاب، وهو الأمر الذي يجعل اللجنة تقوم على شرعية جماهيرية مباشرة. هذا الأمر ليس مسألة بسيطة، بل ينطوي على إمكانية مواجهة سياسية وأيديولوجية، مع الدولة العبرية، التي ترفض تنظيم المجتمع العربي على أساس قومي، حتى لو كان في إطار الدولة المركزية- دولة إسرائيل في هذه الحالة- مع أن هذا حق منصوص عليه في مواثيق المنظمات الدولية. ويمكن إيجاد أساس لهذا الحق في نص قرار التقسيم الذي وقعت عليه إسرائيل عام 1948. علاوة على ذلك فإن هذا يُعّد طرحاً إستراتيجياً (الانتخاب المباشر) سيفرضه تطور المجتمع الفلسطيني ونخبه في مرحلة قادمة. وهذا الطرح، أو الخطوة، لا تتناقض مع العمل من أجل حل ديمقراطي يشمل الجميع في دولة ديمقراطية مدنية واحدة- دولة المواطنة أو دولة ثنائية القومية، في فلسطين التاريخية. ولكن ما يُجمع عليه الجميع، نظرياً على الأقل، داخل لحنة المتابعة العليا هو اعتماد الهيكلية المتواضعة التي أنجزت في السنوات القليلة الأخيرة، ولم يتم تطبيقها نظراً لغياب الجدية عند عدد من القوى، وبسبب توجس قوى أخرى من إمكانية أن تُصبح اللجنة قوية مع سقف سياسي يتجاوز سقف هذه القوى المحافظة.

ونظراً لكون أي مؤسسة لا تنهض نهوضاً حقيقياً بدون مؤسسة مالية، فقد شكلنا جمعية "أصدقاء المتابعة"، واتفق على أن يُفرض على الأحزاب رسوماً شهرية، أو مساهمة مالية وفق معيار معين.

غير أن هذا الأمر للأسف أيضاً لم يتم. حتى الآن نظراً لعدم قناعة الاتجاه التقليدي بهذا التوجه، ولذلك فقد أخفقت محاولة مأسسة اللجنة ولو بحدّها الأدنى التي بدأت قبل ثلاثة أعوام. حتى الموظف الوحيد الذي اتفق على أن يدير مكتبها، اضطر إلى التخلي عن مهمته لغياب هذه الجدية أو القناعة.

والآن نعيد المحاولة، وبجدية أكبر. ننطلق من الوعي بتزايد خطورة المرحلة غير المسبوقة التي تفرض علينا جميعاً العمل سوية لخلق مناخ مريح للتقارب والتعاون. ونلمس الآن استعدادا أكثر من السابق للتجاوب مع مطلب تمكين اللجنة من أداء دورها.

الفرصة مواتية لتقوية وتمكين "لجنة المتابعة العليا لشؤون الفلسطينيين في إسرائيل"

ماذا نعني بمأسسة اللجنة؟

يعني أن تكون مؤسسة قادرة على القيادة والتوجيه والبناء، بدل أن تبقى مجرد لجنة تنسيق بين الأحزاب السياسية ورؤساء السلطات المحلية. يعني أن يكون لها مقرّ كبير وواسع يسمح بإدارة شؤون هذا العدد الكبير من الناس.

يُخصص لها مكتب مركزي، يكون فيه إلى جانب رئيس المتابعة، أو في خدمته، مدير بوظيفة كاملة. وأن يكون هناك موظفون آخرون يختصون في مجالات أخرى، كالمالية، والإعلامية، وتنسيق العمل الشعبي. وأن يكون لها لجان، وأقسام فرعية مثل التخطيط الإستراتيجي في المجالات المختلفة كالتعليم، والثقافة والاقتصاد. وأن يكون للجنة رئيس قادر على القيادة وإدارة الاختلاف بين مركبات اللجنة، وتوجيه الجهود الموحدة. وأن يكون رئيس اللجنة، لجنة المتابعة العليا، متفرغاً كاملاً وله مساعد، وأن يكون منتخباً، على الأقل في المرحلة الحالية من المجلس المركزي إذا تعذر التوافق، كما تنص بنود الدستور الجديد الذي تضمنته الهيكلية الجديدة. والأهم من ذلك كله، بل مفتاح ذلك كله، هو القدرة المالية.

لا بدّ من توفر قناعة كاملة بأهمية تقوية لجنة المتابعة العليا، وجدية كاملة من جانب مركبات اللجنة (أحزاباً ورؤساء سلطات محلية وأطراً أخرى) ببذل كل الجهد لتوفير الأموال. ولهذا الغرض أُقيمت جمعية أصدقاء المتابعة قبل ثلاث سنوات. هذا لا يتم إلا عبر قيام الأحزاب بالبدء بدفع مستحقاتها. هناك من دفع جزئياً وهناك من لم يدفع. لكن استحقاقات الأحزاب، تظل متواضعة جداً، ولا تغطي إلا جزءاً يسيراً جداً من التزامات المتابعة. مع ذلك من شأن التزام الأحزاب بدفع مستحقاتها المالية أن يظهر الجدية في العمل، ويقدم نموذجاً يقتدى به، ويفتح الباب على مسار إستراتيجي... باتجاه تجنيد الأموال من شعبنا في الأساس، ورجال الأعمال، ومن المواطنين. لدى شعبنا الإمكانات والمهارات والطاقات القادرة على بناء مؤسسة وطنية عربية موحدة، قوية، ومستقطبة للناس.

لكن كيف نتواصل مع الناس، ونرسخ القناعة ونكسب الثقة الشعبية بالمهمة الجديدة، مهمة إعادة بناء اللجنة، بعد أن بلغ تآكل الثقة الشعبية بها مستوى خطيراً، وفي الوقت ذاته ننتظر منهم التجنّد وتقديم الدعم المالي والمعنوي لهذه الهيئة الوطنية الموحدة.

سيحتاج الأمر إلى عدة مراحل، وإلى أشهر وربما سنوات. أما المرحلة الأولى والتي لا تنتظر حتى أسابيع فتحتاج إلى مسارين متلازمين.

المسار الأول إعلامي وتثقيفي: تعميم وشرح عن ماهية اللجنة ودورها الراهن والمستقبلي، وتحديد عدد من الأهداف العينية التي تُفيد مباشرة أبناء شعبنا، مثل صناديق لدعم التعليم، الطلاب الجامعيين، دعم أصحاب البيوت المهدومة، خاصة في النقب، دعم المعتقلين (على خلفية مقاومة السياسة العنصرية والمشاركة في النضال ضد الاحتلال والجرائم الإسرائيلية)، دعم الفقراء وإقامة مشاريع اقتصادية، وغيرها. وهنا، ينتظر من كل المقتنعين بوجود قيادة قومية موحدة ومتماسكة لفلسطيني الـ48، خاصة الأكاديميين منهم، المساهمة مجدداً في الكتابة والترويج للمشروع وللحاجة الملحة له.

المسار الثاني مالي وتنظيمي: أولاً، استكمال دفع مستحقات الأحزاب وتثبيت مبدأ الدفع الشهري. ثانياً، تحضير قائمة بأسماء رجال أعمال عرب والتوجه إليهم بطلب دعم المشروع الذي يتمثل أولاً بمأسسة اللجنة وثانياً دعم الأهداف العينية المذكورة. ثالثاً، في حالة نجاح هذه الخطوة الفورية والتي يجب ألا تتجاوز مدة أشهر قليلة، ننتقل إلى المرحلة الثانية، ألا وهي البدء بتشكيل اللجان الشعبية (أو من خلال اللجان القائمة) والمباشرة بجمع تبرعات من المواطنين مثل عشر شواقل من كل مواطن. عبر هذه الآلية، يشترك الناس في عملية تعزيز تقرير مصيرهم، ويُمهّد لتحقيق حقهم في تقرير المصير، وذلك من خلال الاستعداد للمشاركة في انتخابات مباشرة لبرلمانهم في المستقبل.

هذه مهمة ملقاه بالأساس على أعضاء اللجنة المالية والتنمية الاقتصادية (والتي تطوعت بتركيزها)، وقد بدأنا مؤخراً ببرنامج عمل ينحو بهذا الاتجاه.

مقومات نجاح المشروع قائمة

من المقدمات الضرورية لإطلاق مشروع تقوية لجنة المتابعة العليا، والمضيّ به، توفير مناخ حقيقي بين الحركات والأحزاب السياسية الفاعلة. وهذا يتطلب تخفيض التوتر بأكبر قدر ممكن، والابتعاد عن المناكفات وهذا يشمل الجميع، إذ علينا جميعاً أن نعمم على قواعدنا الكف عن تحويل الاختلاف السياسي والفكري المشروع إلى صراع. ليس مطلوباً إنهاء الاختلاف، ولا إنهاء النقاش، فالاختلاف والنقاش هما شرطان ضروريان للحفاظ على حيوية المجتمع والافادة منه في تطوره. ومن المهم أن يتم توجيه النقاش في اتجاه كيفية إنجاح المشروع وتحصين المجتمع، بحيث يخلق حوافز لدى النخب والناس للتجند لدعم هذا المشروع القومي، والحياتي.

لدي قناعة أنه بإمكاننا أن نحقق ذلك، فالمناخ المتولد عن تسونامي العداء والتحريض الرسمي والشعبي في الدولة العبرية ضدنا، مواتياً، ومن المفترض أن يساعد على التقارب والتكاتف الحقيقي في إقامة المؤسسات القومية التي تقود المجتمع. كما أن الصمود الأسطوري لأهلنا في غزة، وما تمخض عنه من معان كبيرة من شأنه أن يعزز الثقة الذاتية والمقدرة على تحقيق الإنجازات.

لن يكون ذلك على حساب التوجه للمجتمع الإسرائيلي، وباللغة المناسبة التي نستطيع من خلالها توضيح أهدافنا، ذات البعد الحقوقي والإنساني، والسياسي بدون التنازل عن أي من ثوابتنا. في نهاية المطاف إن توجهنا هو العيش المشترك، في كيان سياسي ديمقراطي، يقوم على مبدأ القيم الكونية- الإنسانية والمدنية، العدالة والمساواة، بعد إسقاط نظام الأبارتهايد الكولونيالي والتخلص من الظلم التاريخي. أقول ذلك مع أني أدرك تماماً الانحدار المتسارع نحو الفاشية داخل المؤسسة الصهيونية الرسمية الحاكمة وداخل مجتمعها الاستيطاني. غير أن ذلك لا ينبغي أن يدفعنا إلى العدمية والتخلي عن قيمنا الإنسانية كما لا يجوز أن يقعدنا عن العمل الرئيسي، وعن المهمة الوطنية الكبرى التي يجب أن نستنفر لها، ألا وهي تنظيم صفوفنا، وبناء مؤسساتنا والتواصل مع نضال شعبنا ضد الاحتلال والاستيطان والتهويد، وتفعيل أكبر لإمكاناتنا الكامنة من أجل البناء المجتمعي، وفي النضال الوطني والديمقراطي.

كل مجموعة، كل فرد، كل إطار، لهم دور في هذه المهمة الوطنية الكبرى. الخطر متربص بكل واحد فينا، في البيت، في الشارع، في مكان العمل، وفي مكان التعليم. معاً نستطيع أن نصدّه ونبني صرحنا الوطني. هذه المهمة، تخدمنا كفلسطينيين في الداخل مباشرة، ولكنها أيضاً تصب في نهاية المطاف في خدمة شعبنا كله أينما كان. 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]