القادمون من الضفة الغربية يتحدثون عن مزاج مختلف في أوساط الجمهور الفلسطيني، إذ حظيت المعركة في قطاع غزة باهتمام الناس على نحو استثنائي، وأصبحت المقاومة وحركة حماس تتمتع بحضور شعبي لم يسبق له مثيل منذ الحسم العسكري منتصف العام 2007، بل ربما قبل ذلك أيضا.
يحدث ذلك لجملة من الاعتبارات، لعل أولها التعاطف الطبيعي مع مسلسل الموت والتدمير الذي أصاب جزءا من الوطن الفلسطيني وأبنائه، لكن البعد الذي لا يقل أهمية هو تطورات ما قبل المعركة الأخيرة، إذ أثبتت حماس بقبولها حكومة الوحدة أن المقولات التي طالما روَّجها أنصار السلطة وحركة فتح عن حرصها على السلطة وتمسكها بها على حساب القضية كانت محض هراء، وأن الحسم العسكري لم يكن من أجل تأسيس “إمارة ظلامية” في قطاع غزة كما روّجت الآلة الإعلامية لدحلان والسلطة والليكود العربي بشكل عام، وإنما كانت سلوك المضطر ردا على تآمر الطرف الآخر.
البعد الآخر الذي لا يقل أهمية هو تأكد الجميع من أن الحديث عن تركيز حماس على السلطة وترك المقاومة كان سخفا أيضا، فالحركة لم تكن تريد التهدئة لذاتها، بل من أجل الإعداد للمواجهة مع العدو، ومن أجل جعل القطاع قاعدة للمقاومة على أمل أن يُجمع الشعب الفلسطيني في وقت لاحق على خيارها؛ أعني المقاومة. فهذه الأسلحة وتلك الأنفاق والبنية العسكرية التي فاجأت الجميع، كانت تأكيدا على أنه بينما كان ينشغل طرف بالتنسيق الأمني مع العدو، كانت حماس تواصل الإعداد والحفر في الصخر من أجل توفير القدرة على مقارعة العدو.
ثمة جانب آخر في حفز مشاعر الجمهور الفلسطيني في الضفة الغربية وتغيير مزاجه العام حيال حركة حماس؛ ولعله الأكثر أهمية، هو المتمثل في المعركة البطولية التي خاضها رجال القسام وقوى المقاومة الأخرى، والتي أوجعت العدو على نحو استثنائي، فضلا عما ترتب على قتل المستوطنين الثلاثة من استباحة للحركة في الضفة، وأسر حوالي 1200 من عناصرها، وهم نخبة المجتمع الفلسطيني، ومن يقارن بين بطاقات الفي آي بي التي يحصل عليها بعض نواب كثيرون، مقابل السجون لنواب حماس، سيدرك الفارق بين الطرفين من حيث رضا الاحتلال عن طرف مقابل سخطه على الطرف الآخر.
واقع الحال أن حركة حماس قد عادت إلى ألقها في الضفة الغربية، فضلا عن قطاع غزة، فيما وجد شباب حركة فتح أنفسهم في حالة خجل من سلوك قيادتهم، ولعل ذلك هو ما يفسر بعض التغير في خطابها لجهة تبني مطالب المقاومة بعد تردد، بل بعد دعم صريح للمبادرة المصرية، في وقت تابع الفلسطينيون خطاب النظام المصري وإعلامه حيال الفلسطينيين بشكل عام، وليس حيال حركة حماس وحدها.
والحال أن جماهير الشعب تدرك أيضا أن ما يجري يمثل محاولة لتركيع الشعب الفلسطيني برمته وليس قطاع غزة وحركة حماس، فيما هو يراقب ما يجري في الضفة من تهويد واستيطان، كما أنه لا ينسى أن المواجهة الأخيرة قد بدأت في الضفة الغربية قبل أن تنتقل إلى قطاع غزة.
من المؤكد أن ما جرى من حراك في الضفة الغربية لم يرق إلى مستوى المعركة في قطاع غزة، لكنه حراك يبدو أكثر تميزا في المناطق التي لا وجود فيها لأمن السلطة (القدس كانت رائعة في المواجهات العادية والعمليات، كعملية الجرافة وغيرها)، فيما ينبغي التذكير بأن مناطق السلطة قد خضعت منذ العام 2004 لعملية إعادة تشكيل للوعي، من خلال الهيمنة على المساجد والجامعات وسائر المؤسسات، ومن خلال إشغال الناس بالاستثمار والرواتب، فضلا عن تعزيز القبضة الأمنية من خلال أجهزة أمنية صيغت بعقيدة غير مسبوقة في انحيازها للتنسيق الأمني مع العدو.
كل ذلك لا ينفي أن جيل الشباب يراقب ما يجري بالكثير من السخط، لكن حركة فتح ونفوذها تبقى معضلة، لا من حيث توجهات شبابها، وإنما من حيث التزامهم بالخيار العام للقيادة.
من المؤكد أن الأمل لا يزال كبيرا بتصعيد الانتفاضة في الضفة الغربية؛ لا من أجل لجم العدوان بشكل نهائي وفرض شروط المقاومة (لم تنته المعركة بعد فشل المفاوضات وعودة التصعيد)، بل وهو الأهم، من أجل تغيير المسار برمته باتجاه انتفاضة ثالثة تعيد القضية إلى سكتها الصحيحة، وتوقف مسيرة العبث التي طالت أكثر بكثير مما يمكن احتماله.
[email protected]
أضف تعليق