لا أعرف ماذا يدفعني، في هذا "الآب"، لأكتب عنك ولك؟
عساه الشوق، يأتيني بنكهة كرملية خالصة، تستثير الذكرى وتوقظ القلب على وجد وجوى.
كان ذلك اليوم يومًا غير عاديّ. وصلت بسيّارتي إلى دار" أحمد" وكنتَ كمن ملأ صدرَه بدعاء "حورية" وتزوّد من بركة سمائها؛ على وجهك بسمة خفيفة، كتلك التي يُسقط صاحبُها بها عصافير المساء. حمرة خجولة كست خدّيك ووشت بما تفعل أرض البدايات بعاشق "يقتفي إيقاع موسيقى ستصدح من زوايا الكون" ويمضي مؤمنًا بحدسه ووعود الأطباء الذين لا يعرفون أن "الخلاصة، مثل الرصاصة في قلب شاعرها حكمة قاتلة"، فخيّروه أن يحيا على لغم أو على فوّهة عملية، وهو الذي مارس طقوس عشقه في الريح وعاش حياته عليها.
لم تسألْني، كما فعلت في الأيام السابقة، عن وجهة سفرنا، فمحطتنا الأولى ستكون حيفا والأخيرة رام الله، لأنك منها ستغادر في الصباح إلى عمّان، ففرنسا، ثمّ إلى هيوستن، التي فاز أطباؤها بقلبك، واختيروا ليكونوا أمناء على حلمك ووجعنا.
ركبنا السيّارة، لاحظت أنّك لم تلتفت إلى الوراء، وبحركة، أضحكتني مرارًا، رفعت ساقك اليسرى وألقيتها، بمرونة راقصة باليه، على فخذ رجلك اليمنى، وأرجعت ظهرك إلى منتهى الخلف، وبادرتني بسؤالك، الذي صار في الأشهر الأخيرة كلازمة، فكسرت بها صمت اللحظات، وذكّرتنا بمعنى الهشاشة وباحتمالات الأمل: هل يجب أن أجري العملية أم أجازف؟
لم أجبك، لأنني أحسست أنك لا تنتظر الجواب، فقمتُ بالاتصال بـ "الحكيم منذر"، كما كنت تناديه، وعبر السماعة أخبرته: "معي محمود ونحن بطريقنا إلى حيفا ،وهو ما زال حائرًا ويسأل هل يجري العملية أو لا؟" ضحك "منذر" ومباشرةً لاقته ضحكة أعلى من محمود، واستعادا، بعدها، خلاصات حديثهما من ليلة جمعتهما مؤخرًا، استمع فيها محمود لرأي الدكتور الخبير في أمور القلب وشؤونه. لقد بدت علامات راحة على وجه محمود وعاد إلى طبيعته الآسرة.
"لا تقلقي فأنا ذاهب لبضعة أيام وسأعود إليكم، لقد أخبرني الطبيب في "هيوستن" أن العملية مثل كي القميص؛ لن تكون معقدة وطويلة. انتظريني يا حبيبتي الصغيرة فأنا عائد، كما وعدت البارحة، أباك، الحصان، وأمك" هكذا همس محمود بأذني "دانة "وهو يضمّها بعد أن أوقفتنا وأمّها على جانب الطريق لتودعاه، مرّةً أخرى، ولتحظيا بضمة وقبلة ووعد.
"هل كان عليّ أن أزور أصدقاء لم نزرهم في زيارتنا الأخيرة؟
سألني ونحن ندخل في مساء حيفا، التي بدت مدينة غريبة، ورائحة الملح غابت عن مينائها.
- "بعد عودتك سنعد برنامج زيارات أخرى لمن تريد وتختار"، أجبته، وكان وجهه متعلّقًا بالموج، ونورسان يطيران بمحاذاة الشاطئ، يتابعانه كحارسين، لم ألتقط هل كانت عيناه تدمعان أم تضحكان، لكنّه بدا لي أجمل من قرص الشمس الذي كان يغرق في بحر حيفا. صمَتُّ، وكانت "دمعتي في الحلق يا أخت وفي عيني نار".
كان الكرمل، حين وصلناه، يقظًا ومتشاوفًا. شوارعه مضاءةً بكثافة، وتعجّ بجميلات يغار الندى من خواصرهن. توجّهنا إلى المقهى حيث كان ينتظرنا فيه صديق محمود، الكاتب أنطون شمّاس، الذي يعيش منذ عقود في المهجر، ويأتي إلى الوطن كي يتذكّر جراحه، ويستعيد معنى الفارق بين الواقع والمجاز.
لأكثر من ساعتين التقيا وتحدّثا عن كيف يكون الحب وكيف يزول؟
فتشا عن منتصرين في عالم لا نعرف فيه نحن في بلادنا، إلا المهزومين. تصوّرا ليلنا في الشرق وكيف سيكون، حتمًا، أقسى من ليل "النابغة" واتفقا أن الخلاص لن يكون إلّا في الرواية والشعر وفي الحب. كان اللقاء دافئًا، ذكّرهما بحسرات كثيرة، وأيقظ فيهما قلبين أتعبهما التجوال والسراب وإدمان المنفى.
تعانقا في وداع جميل، أنهاه محمود بما يشبه الوصية تلاها على أنطون، وحثّه فيها أن يكتب روايته التالية، وألا يستكين ويقنع بأسطورة الكاتب صاحب الرواية الواحدة، مهما كانت هذه خاصة، جميلة ومميزة.
ترك محمود أنطون، وأشهد الكرمل على وعده والتاريخ، وسافرنا إلى رام الله.
على نفس الطاولة أجلس في هذا المساء. أراك قبالتي، تتلو علي قصيدة جديدة- "عينان تائهتان في الألوان، خضراوان قبل العشب"، وتؤكد لي، للمرّة الألف، أن لا حب ينمو في القصيدة، إن لم يجد تربته في الحياة، وتكون وسادته كما قلت: "شادنا ظبية توأمان"، وتضحك عيناك الجميلتان العاشقتان، فألح عليك لأعرف من تكون صاحبة تلك العينين الخضراوين؟ فترفع لي كأس نبيذك وتشرب معي نخبها، وتعيدني إلى الكرمل الذي كان أحمد سلّمه، وتترك قلبي للصدى، أسمعك تطرح علي السؤال تلو السؤال، وأعرف أنني ما زلت مدينًا لك بكثير من الأجوبة والتفاصيل.
بعد رحيلك بدأت أنتبه كيف تغيّرت وصرت، في السنوات الأخيرة، كلّما سنحت فرصة أو حلّت مناسبة، تحب السفر إلى الجليل وتقيم فيه أيّامًا.
بدأت أستعيد رحلاتنا التي كنت تصر فيها على زيارة أكبر عدد من القرى والمدن وتزور بعض أصدقائك من ذلك الزمن الأحمر.
كلّما أتذكر ذلك، أعي كم كنتُ غبيّا، لأنني لم أستوعب حينها، أنك كنتَ، عمليًا، تقيم طقوس الوداع، لكنك فعلت ذلك بذكاء وإصرار شاعر لا يريد لقصيدته أن تنتهي. فكيف لم أشعر حين كنتَ توقفني على قمة الجبل هناك في ظل" سعسع" أنك كنتَ تملأ صدرك من هواء تلك الجبال ليبقى زادك النقي في رحلتك إلى العدم؟ كيف لم أشعر، وأنت تأخذ الشقاوة معك وتسيرا ببطء على أسوار عكا وفي أزقتها، أنك تمسح عن مفاصل قلبك صدأ ليالي التيه والحصارات الشديدة؟ كيف لم نشعر وأنت تجرّنا إلى زيارات أحبتك القدامى، أنك كنت تأخذ منا النعاس لتنام هناك بعيدًا في زهر اللوز وصفاء الليلك؟
وصلنا رام الله، طلبت مني البقاء، لأن الليل كان بأوّلّه، وأن الأيام القادمة هكذا أفهمتني، ستشبعنا نومًا، لم أنتبه للدم وهو يسيل من حد الاستعارة، وقضينا ليلنا في مطعم تعوّدنا على بستانه.
تركتك في الثانية صباحًا، وأكّدت لي أن العملية لن تكون أصعب من كي قميص. في الصباح طمأنتني أنك بطريقك إلى عمّان، وتواعدنا أن نلتقي مجددًا لنكمل أحاديث بيننا لم تنته.
اليوم، في تلك الزاوية في قلب الكرمل، الذي فقد بعضًا من تشاوفه، أجلس و"دانتي" التي لم تعد صغيرةً، ننتظر، بصبر حصان، من لم يخلف معنا ميعادًا، ونشرب نخب من علّمنا - "أن الحياة هي اسم كبير لنصر صغير على موتنا".
[email protected]
أضف تعليق