الحقيقة الأولى:

بعد قرابة شهر من الاعمال القتالية في قطاع غزة الفلسطيني وحوله يبدو ان الوساطات المختلفة قد نجحت في الوصول الى هدنة إنسانية مدتها ثلاثة أيام ستمتد ربما الى ثلاثة أيام أخرى قبل ان يتم التوقيع على هدنة طويلة الأمد.

الهدنة اليوم هي بين طرفي النزاع وهما بالتحديد المقاومة الفلسطينية وإسرائيل. والتفاهم حول الهدنة ومن ثم توقيعها بين الطرفين هو تحديد صريح بين الطرفين بمن كان يقف امام الاخر في المعارك، إسرائيل توقع بإرادتها ان من تعقد معه الهدنة هو المقاومة الفلسطينية سواء كانت ممثلة بحماس او بمنظمة التحرير او بالسلطة الوطنية.

تأتي الموافقة على الهدنة عادة بعد الإرهاق والاستنفاذ والترنح في القتال، وهنا يكمن بيت للقصيد، لان ترنح المقاومة بما لديها من قوة ودعم وعتاد وميدان محدود للحركة مفهوم وهو يستحق التصفيق والتهليل والاندهاش، واما ترنح الجيش الإسرائيلي فيثير الكثير من التساؤل والاندهاش أيضا خصوصا ان ما التصق في الذهن بعد السابق من الحروب التي خاضها الجيش الإسرائيلي كانت دائما تترك انطباعا تأكيديا بانه فعلا الجيش الذي لا يقهر، وهل يترنح الجيش الذي لا يقهر؟

إذا نجحت المقاومة في تبديل المفهوم الذي كانت تعتنقه الشعوب العربية والأمة الإسلامية بان الجيش الإسرائيلي لا يقهر وتحويله الى جيش يترنح ويقبل بالهدنة ان لم يكن هو المطالب بها أصلا، هذا التحويل ان كان هو الوحيد الناتج عن معارك الشهر الماضي فانه بلا شك انتصار كبير ومؤكد يذكرنا بانتصار القوات الإسلامية المقاتلة في حروب الإسلام الأولى امام قريش والفرس والروم، حيث كان عتاد وامداد واعداد جيش المسلمين اقل بكثير من عدد وعدة وعتاد خصومه، لكنه كان يجبرهم على الترنح وتوقيع الهدنة ... ما اشبه اليوم بالبارحة.

تبديل مفهوم الجيش الذي لا يقهر ليس الانتصار الوحيد اذ قتل للصهاينة أيضا من قتل وجرح من جرح وتشرد من تشرد ونام في الملاجيء من نام ، فان كنتم تألمون فانهم يألمون.

نحن مضطرون امام هذا التبدل في المفهوم الى تقديم بعض الأسئلة باثر رجعي، فما الذي جعل الجيوش العربية تنهزم امام الإسرائيليين في معظم الحروب السابقة، بل ان الهزيمة المرة بعد المعركة المنتصرة الوحيدة في التاريخ الحديث عام 73 كانت قد تجسدت بوضوح شديد في رضوخ الدول العربية لبنود اتفاقية كامب ديفيد وما تبعها من اتفاقيات، لنبدأ بالتساؤل من جديد عما كان يجري في السابق ومن كان يقاتل من وعلى أي قاعدة والى أي هدف ؟.

الحقيقة الثانية:

قال لنا الاعلام بعد عام 48 بان أطراف النزاع في فلسطين لم تكن متكافئة، العصابات الصهيونية أكثر عددا وعدة وتدريبا وأنها مدربة في ميادين الحرب والقتال في أوروبا خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية هذا بالإضافة الى دعم وتامر الانجليز والمندوب السامي حينها، ولم تكن المقاومة الفلسطينية سوى مجموعات غير منتظمة ولا منظمة ولم يكن لديها اية خبرة قتالية فكانت الهزيمة، فأرادنا الاعلام ان نعتنق مفهوم ان الحق عليهم في هزيمتنا، ولكن المقاومة هذه الأيام افشلت هذا القول.

وقال الاعلام لنا أشياء مشابهة بعد حروب عام 67، قال لنا بان الجيش الإسرائيلي قد اعتمد المباغتة في الهجوم صباح ذلك الاثنين المشؤوم يوم الخامس من حزيران، أي خدعونا ولولا ذلك لأكلناهم، وكأن المباغتة ليست حقا للجميع وأسلوب تكتيك متاح لمن أراد، واعادوا الموضوع مرات عديدة على مسامعنا الى ان صدقنا بان الحق عليهم تماما في هزيمتنا وركنا الى ذلك.

وحتى اتفاقيات كامب ديفيد وما تبعها من انكسارات عربية متلاحقة قال الاعلام لنا بعدها بانها ثمرة انتصارنا في الحروب العسكرية، مع ان المؤشرات كانت غير ذلك ولم نسأل كثيرا حينها لماذا بدلت مصر نشيدها الوطني - من نشيد والله زمان يا سلاحي الى نشيد بلادي بلادي بلادي - علما باننا تعلمنا ممن سبقونا بان تغيير النشيد الوطني الألماني كان شرط استسلام الرايخ الثالث في نهاية الحرب العالمية الثانية، أي ان اعلامنا قد حول الهزيمة في الواقع الى انتصار على صفحات الجرائد.

في كل الحالات السابقة والتي كان الحق فيها على الاخرين في هزائمنا كان الاعلام هو سيد الموقف وسيد القرار وسيد التوجيه وصاحب الأثر والتأثير علينا. وكنا نصدق الاعلام ونعتنق أقواله ونعمل بتوجيهاته بدون عناء مناقشة.

وبقينا وبقي اعلامنا كذلك حتى معارك غزة الأخيرة، الى ان فوجئ الاعلام بما يجري على الأرض، وأسقط في يده، فلم يعد قادرا على تزوير حقائق او تبديل مشاهد او تحليل اقوال في غير موضعها كما تعود لان الحقائق على الأرض تعكر صفوة، فانتصرت المقاومة وانكسر الاعلام.
لكن الاعلام العربي لم يستسلم امام هزيمته هذه المرة فاستدار نحو الحرب النفسية ضدنا، فأصبح مضطرا ان يقول الحق ولكن كان قصده باطل، والدليل على ذلك ان كل نشرات اخباره وتحليلاته السياسية والاخبارية تبدأ دائما من نشر صور واصوات بعبع الخراب والتدمير الذي لحقنا ليكسر نشوة الانتصار فينا ثم يذكر بشكل عارض انتصارات الشباب على الأرض، فماذا كان يقصد الاعلام من خلال متابعته للأمور بهذا الأسلوب؟ بل ماذا يريد منا او ماذا يريدنا ان نفعل؟

يا أيها الاعلام العربي بكافة انواعه وحيثما يتواجد، ان كان لا بد ان تقول شيئا فقل الحق او فاصمت، تعلم من اعلام العدو الذي يمتنع عن ذكر خسائره في اعلامه المحلي حفاظا على معنويات شعبه، لكنه يقول كل ما يريد الى درجة الكذب في اعلامه الخارجي، انقلوا لنا انتصاراتنا ودعونا نعرف وحدنا أمور شهدائنا وجرحانا ونترحم عليهم في سرنا ولا نصرخ، وانقلوا للعالم ما تريدون من صور لهمجية وبربرية العدو، فذلك يعنيهم ولا يعنينا ونحن نعرفه ونريدهم ان يعرفوه،
اذا بقي اصراركم على بذل التخاذل والخوف والانكسار في نفوسنا فسنهجركم وننتقل الى الأماكن التي نستطيع ان نتحكم فيها بما نحب ان نرى ونسمع، وبدوننا لن يستمع اليكم احد وستترنحوا وتنكسروا كما ترنحوا وانكسروا امام عقل وسواعد وبعد نظر المقاومة.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]