متى يتوقف العدوان، ومتى يتوقف شلاّل الدم النازف على أيدي النازيين الجدد، سؤال بل هو السؤال الذي يدور على ألسنة الناس في قطاع غزة، الذين خرجوا عن بكرة أبيهم خلال الاثنتي عشرة ساعة، من التهدئة الإنسانية، التي تم الاتفاق عليها.
سؤال يدور حائراً على كل لسان، لكن لا لسان واحداً قادر على الإجابة، فلقد حيّرت السياسة ودهاليزها، وتجاذباتها الإقليمية وحساباتها، هذه حيّرت كل عقل ولسان. الجواب الأفضل الذي يتحاشى المغامرة، حفاظاً على المصداقية. هو "الله أعلم"، إن شاء الله الفرج قريب. هو جواب أيضاً يضع صاحبه في مستوى المواطن العادي، ذلك أن هول ووحشية العدوان، جعلت الناس في مقام واحد وفي مستوى واحد، بل ان الأحياء منهم يخجلون من أن يظهروا بعض التميز، لأن الشهداء هم المتميزون، ومن فقدوا ذويهم وأصبحوا في عراء اجتماعي هم المميزون. المميزون كثر، ولا يتركون لكل الألقاب، مهما كان رنينها، فرصة لأن يتبجح بمعرفة، ترهقها تضاربات السياسة.
منطقياً، استنفدت إسرائيل أهدافها الهلامية، والمتبدلة من هذا العدوان، حتى لم يبق من هذه الأهداف سوى العناد، والرغبة في القتل وفي تضخيم فاتورة العقاب للشعب الفلسطيني.
ربما كان هذا هو السبب الوحيد لاستمرار العدوان، ولكن ربما كان السبب هو أن إسرائيل مسرورة جداً من أنها تملك الفرصة للتعبير عن طبيعتها العدوانية والإرهابية.
المقاومة هي الأخرى، حققت ما تريد، من ناحية إظهار قدراتها، وصمودها ونجاحها في أن تجعل من هذه الجولة، شيئاً مختلفاً عن كل ما سبق، شيء يجبر الاستراتيجيين الإسرائيليين من كل الأنواع، لأن يعيدوا النظر فيما درجت عليه إسرائيل من عقائد ومن استراتيجيات أمنية وحربية، منذ قيامها حتى الآن. يبقى أن إسرائيل تريد أن تحقق بعض الأهداف، فهي ستظل تحارب ضد المصالحة الفلسطينية، وستحاول منع وحدة الفلسطينيين، وستظل تعمل من أجل فصل وعزل قطاع غزة، حتى تقصي إلى الأبد فكرة ومشروع الدولتين.
تريد إسرائيل هدوءاً مجانياً مع قطاع غزة، وتريد إضعاف حماس والمقاومة هنا، وإضعاف فتح والسلطة والمنظمة هناك في الضفة الغربية. إسرائيل لا تمانع في أن يتحول قطاع غزة، إلى إمبراطورية، حتى لو كانت مدججة بأنواع الأسلحة والصواريخ، التي تم استخدامها خلال العدوان الأخير عليها، ولكنها تريد أسلحة في الملاجئ، وتحت الأرض، لا تستخدم ضدها، وإنما ستعمل ـ أي إسرائيل ـ على استخدامها وتوظيفها في صراعات داخلية، أو صراعات خارجية ولكن بعيدة عن حدودها.
هذه الطريقة وهذه النتيجة التي تسعى إسرائيل لتحقيقها هي التي تجنبها الاصطدام برغبة الولايات المتحدة في دفع العملية السلمية، ذلك أن الواقع الذي ترغب إسرائيل وتسعى إلى تحقيقه، يقدم مبرراً موضوعياً، لتراجع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، عن مواصلة العمل من أجل تحقيق رؤية الدولتين.
ويسعى الفلسطينيون إلى العكس من ذلك، واحباط المخططات الإسرائيلية ذات الأبعاد الاستراتيجية الخطيرة، هو ما يجعل الأداء الفلسطيني أكثر نفعاً وأكثر إدهاشاً، غزة بعد العدوان المستمر، ينبغي أن تكون غيرها، قبل ذلك، إذ لا يعقل أن يدفع الفلسطينيون كل هذا الثمن الباهظ من أجل أن يعود قطاع غزة، إلى ما كان عليه، من انقسام، ومن حياة بائسة بالكاد تجد شعوباً أو قبائل تعيشها في هذا الزمن.
هذا التباعد في المواقف والاستراتيجيات، مع دخول المضاربات الإقليمية على الخط، هو ما يجعل الإجابة عن سؤال المواطنين بشأن التهدئة، صعباً وغير مضمون أو موثوق حين يتطلب السؤال إجابة محددة.
اجتمع العديد من ممثلي الدول العربية والإقليمية والدولية في باريس أول من أمس، ولم يخرجوا بقرار نافذ محدد، وقبلهم اجتمع مجلس الأمن الدولي مرتين، وخرج ببيانات عامة لا تسمن ولا تغني من جوع. جولة الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون إلى المنطقة، ومكوثه فيها عدة أيام، لم يكن ليعني شيئاً لا بالإضافة ولا بالنقصان. فهو شأنه شأن مجلس الأمن حين يكون مشلولاً، بسبب الدعم الغربي لإسرائيل. إذا كان الجواب يُقرأ من عنوانه، فإن اجتماع باريس، لم يكن ليحقق أي نتيجة طالما أنه يختار البحث في تطبيق المبادرة المصرية، في ظل استبعاد مصر صاحبة المبادرة، وفي ظل غياب أصحاب العزم، الذين لا تكفي الوكالات لغيرهم لكي يكونوا حاضرين. اجتماع باريس ينطبق عليه القول الشائع "مولد وصاحبه غائب".
ولكن ثمة ما ينبغي على الفلسطينيين فعله، بوجود، أو في غياب تحرك دولي وعربي من أجل صياغة اتفاق تهدئة. الحديث يدور عن أسلحة أخرى إضافية لدى الفلسطينيين لا بد من استخدامها، للحصول على أفضل نتيجة ممكنة من وراء هذه الجولة من العدوان، ومن التصدي الباسل.
من هذه مثلاً، تفعيل وتوسيع إطار المقاومة الشعبية في كل أنحاء الأرض الفلسطينية فما يجري في الضفة، وفي القدس، وفي الداخل الفلسطيني، يدق أجراس خطر حقيقية لدى صنّاع القرار في تل أبيب وفي العديد من العواصم الدولية، التي لا ترغب في أن يجرى خلط الأوراق في المنطقة كلها. ومن هذه أيضاً، التوجه إلى الأمم المتحدة برزمة أخرى من قرارات الانضمام إلى المؤسسات والمعاهدات الدولية، وقد عرفنا كم كانت إسرائيل غاضبة حين قررت القيادة الفلسطينية اتخاذ مثل هذه الخطوة بعد قرار إسرائيل رفض الإفراج عن الدفعة الرابعة من الأسرى. ومن هذه الخطوات أيضاً وقف التنسيق الأمني، طالما أن المواجهة شاملة.
وعلى نحو عاجل ينبغي تفعيل قرار الرئيس محمود عباس، بالتوجه إلى الأمم المتحدة لطلب الحماية الدولية للشعب الفلسطيني تحت الاحتلال. ومن هذه أيضاً، اتخاذ العديد من الخطوات الجادة والفاعلة في إطار دفع المصالحة الفلسطينية. بعد أكثر من ثلاثة أسابيع على العدوان الإسرائيلي البشع، لا بد من تطوير وتصعيد المجابهة الفلسطينية بإدخال أسلحة جديدة فعالة بالتأكيد، لضمان نتائج أفضل.
[email protected]
أضف تعليق