قبل أن تنتهي الحرب الحالية التي تشنها إسرائيل على غزة والتي تدخل اليوم يومها السادس عشر وقبل أن تتضح طبيعة الهدنة أو وقف إطلاق النار الذي ستتوصل إليه الأطراف بتدخل دولي وعربي خلال الأيام القادمة، يمكننا الآن أن نلخص بعض القضايا ونصل إلى استنتاجات مركزية وهامة فيما يتعلق بطبيعة الصراع في هذه المرحلة وبمهام وتحديات المرحلة المقبلة.
ملاحظات تمهيدية:
أولا: لا ينبغي للحظة الشك أو التغافل عن أن هذه الحرب هي حرب عدوانية حرب مجازر دموية تقوم بها إسرائيل بنوايا مبيتة وبقرار سابق بتوجيه ضربة قاصمة وقاضية إذا أمكن لحماس وللمقاومة في غزة. وإن إطلاق الصواريخ يستخدم كذريعة لذر الرماد في العيون ولتحشيد الدعم الدولي للعدوان. وقد تبلور هذا القرار لدى نتانياهو والقيادة العسكرية بعد المصالحة الوطنية بين فتح وحماس وقيام حكومة الوحدة الوطنية التي رأى فيها نتانياهو تهديدا مباشرا واستراتيجيا لخطته في إدارة الصراع التي بناها على استمرار الانقسام وتشتت القضية والقيادة الفلسطينية، ورؤيته الاستراتيجية لمستقبل إدارة الصراع في السنوات القادمة، من خلال التعامل مع "إمارة" غزة تقوم فيها حماس بحراسة الحدود الجنوبية لاسرائيل مقابل بقائها في السيطرة على القطاع والاستئثار في حكمه ودويلة رامالله ،حيث هناك سيطرة أمنية كاملة لإسرائيل واعتقاده أنه وصل تقريبا إلى وضع من تكامل أو تماثل في المصالح مع نخب أوسلو السياسية والاقتصادية تمكنه من الحفاظ على الوضع القائم إلى سنوات طويلة. لقد خربط اتفاق المصالحة على وهنه ونقاط ضعفه وقيام حكومة الوحدة لكل أوراق نتانياهو، فما أن حدث اختطاف الشباب المستوطنين الثلاثة حتى أعلن الحرب على حماس بداية في الضفة وبعدها في القطاع.
ثانيا: نتانياهو خطط لحربه هذه دبلوماسيا ربما أكثر وبالتأكيد أفضل مما خطط لها عسكريا. فقد تعلم نتانياهو من أخطاء سلفه أولمرت، وبنى خطوات الحرب الأولى بحذر شديد وكان فيها استدراج لحماس حتى ظهر فعلا أن نتانياهو غير معني بالحرب بالمرة ومن ثم غير معني بدخول القوات البرية وأنه إضطر لذلك مع استمرار سقوط الصواريخ وبلغ أوج التخطيط والخبث السياسي عندما قبلت الحكومة الاسرائيلية بالمبادرة المصرية لوقف إطلاق النار في اجتماع سريع للطاقم الوزاري المصغر مدركة أن حماس سترفض المبادرة ، وهكذا ستظهر إسرائيل دوليا كمن وافق على وقف الحرب بينما تكون حماس هي المسؤول عن استمرارها وعن وقوع الضحايا بين المدنيين. ولا بد من الاعتراف بأن نتانياهو سجل الكثير من النقاط في حربه الدبلوماسية وأنه حصل على تأييد وتفهم دولي لحربه البرية. فقط صمود المقاومة وفشل الحرب العدوانية في تحقيق أهدافها حتى الآن ووقوع مئات الضحايا بين المدنيين وخاصة الأطفال والنساء، هو ما استنفذ انجازات نتانياهو السياسية والدبلوماسية وان كان بثمن غال من الدم الفلسطيني. لقد فشل نتانياهو في حربه على غزة مرة وإلى الأبد في لعب دور داود وجوليات الجبار في نفس الوقت.
ثالثا: أهم نتيجة للحرب على غزة حتى الآن هي إعادة الموضوع الفلسطيني إلى رأس جدول الأعمال وفي أول سلم الأولويات الدولية والاقليمية والعربية وطبعا الاسرائيلية. يجدر ألا ننسى أن الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت في يناير 2013 في إسرائيل غاب عنها تماما موضوع الصراع وكأنما الانتخابات تجري في سويسرا وتنافست الأحزاب فيما بينها على القضايا الداخلية الاجتماعية والاقتصادية. وباع نتانياهو شعبه والعالم ونجح في ذلك إلى حد بعيد، إن المنطقة تواجه خطرين رئيسيين البرنامج النووي الإيراني وتطرف الاسلام السياسي على خلفية تفكك وانهيار النظام العربي في العديد من الدول. لقد انهارت نظريات إدارة الصراع وابقاء القضية الفلسطينية في الظل والسيطرة على منسوب التوتر والعنف وفي نفس الوقت الحفاظ على النمو الاقتصادي لفترة طويلة وكأن الأمور على ما يرام. الحرب على غزة وفي أقل من أسبوعين فجرت هذه البوتقة التي نجح نتانياهو أن يدخل الاسرائيليين إلى حد كبير بمساعدة فلسطينية وعربية (أوسلو وأداء السلطة والانقسام وانهيار النظام العربي بعد الثورات), فها هو قطاع غزة الذي تحب إسرائيل أن تنسى أنه موجود وتنظيم مقاومة صغير من حيث الموارد والإمكانيات بالمقارنة مع القوة العسكرية الإسرائيلية العملاقة يستطيع أن يجعل أكثر من 5 مليون إسرائيلي ينزلون إلى الملاجئ طيلة أكثر من أسبوعين وأن يوقف الملاحة الجوية إلى مطار اللد في سابقة لها ما بعدها من حيث التأثير على النفسية الاسرائيلية، وفي حساب الربح والخسارة وأن يحقق توازن رعب في الجبهة البرية من خلال الأنفاق والأهم أن يحطم أسطورة النمو الاقتصادي المتواصل ولا أتحدث هنا عن الهبوط الحاد الآني في الاقتصاد والضرر الناتج عن ذلك بسبب الحرب أو بسبب تكلفتها المباشرة التي ستحمل الخزينة عبئا يقدر حتى الآن بمليارات الدولارات، وانما الضرر الكبير بعيد المدى والذي ستتحطم فيه أسطورة الأعجوبة الاقتصادية الاسرائيلية الهايتيكية وادي السيليكون الشرق أوسطي والاستثمارات الغربية وكأنه لا ثمن لاستمرار الاحتلال والسيطرة على شعب كامل وحرمانه من أبسط حقوقه الانسانية ومن حقه في تقرير المصير. هذا انتهى، يستيقظ الاسرائيلي الآن والعالم معه إلى الواقع كما هو: قضية فلسطين هي الأساس وهي كل شيء وبدونها لا سلام ولا نمو ولا حياة عادية ليس فقط لليهود والعرب وانما للمنطقة والعالم.
رابعا: مع احترامنا واعجابنا بصمود شعبنا في غزة ومقاومته الأسطورية الباسلة وانحنائنا أمام تضحياته الجسيمة ومع أننا، ونشدد على ذلك، لا نطفو على شبر ماء وندرك أن تحقيق المقاومة لنصر عسكري بالمعنى التقليدي على جيش العدوان الاسرائيلي هو غير وارد، ومع ذلك فالعبرة الأهم لهذه الحرب حتى الآن تكمن في أن قطاع غزة يعطي العالم الآن البرهان أن إرادة الشعب وإصراره على الصمود ورفضه التسليم والاستسلام وترتيب أولوياته ومقدراته لتوفير أسباب الصمود والمقاومة هي أهم شيء، وهي القادرة على تحقيق التوازن الاستراتيجي. قطاع غزة من أكثر مناطق العالم فقرا وبؤسا واكتظاظا محاصرا من كل الاتجاهات وفي كل المستويات ولا يحظى بأي بعد أو عمق جغرافي وبامكانيات وموارد محدودة، ولكن بعزيمة لا تلين وبإرادة لا تتزعزع يصمد في وجه إسرائيل بقوتها العسكرية العاتية ويكشف جبهتها الداخلية، هل هناك عبرة أعظم من هذه؟.
خامسا: بعد انتهاء الحرب ووقف إطلاق النار لن يعود شيء إلى ما كان عليه وسيكون موقع حماس والسلطة الوطنية في موقع أفضل بكثير تستطيع القيادة الفلسطينية استغلاله لرفع سقف النضال ضد الاحتلال وتحقيق المطالب الوطنية، وسيبدأ العد التنازلي لانتهاء حكومة نتانياهو الحالية باتجاه انتخابات قادمة خلال أقل من عام في تقديري وهذا موضوع لمقال آخر.
[email protected]
أضف تعليق