أن يأتي الصبح على مدن كمدننا، بعد ليل هادئ لا تثقبه الطائرات بعوائها الـمجنون، أصبح أقرب إلى فعل استثنائي أو صدفة قدرية في زمن الغارات النشطة، الباحثة دوماً عن أهداف ترضي غرور الجند بمزيد من الـموت...
مع تصاعد حمى القصف وتدمير محطة الكهرباء، تغيرت طقوس حياتنا بعض الشيء (أقول بعض الشيء ربما كي أقنع نفسي بأنني ما زلت قادراً على التحكم بطقوسي اليومية بالرغم من سطوة الدمار الـمحيط بنا واحتمالية الـموت في أي لحظة...)، أصبحنا نتعامل مع الليل الـمجرد من أي إنارة كهربائية بنوع من العناد الفطري كأن نأوي إلى الفراش مبكراً رغم شحنات القلق الـمتمركزة في أعصابنا، ولا ندع العتمة الطاغية ولا حتى ضوء الشمع الشاحب يمارس عادته السيئة في شحننا بمزيد من الخوف والترقب الأعمى...، لنفيق مع أول إطلالات الضوء، نتفقد أرواحنا الـمتعكرة من هشاشة النوم، وكثرة الأرق والتقلب على الأسرّة كأسماك مشوية...
(لا بأس من بعض الـمتاعب، ولكننا على الأقل نسجل بعضاً من نقاط الانتصار على الـمجهول...).
هذا اليوم قررت اقتناص الضوء الصباحي الـمبكر، من أجل الكتابة، لا أدري ما الذي أقحم هذه الفكرة على عقلي الـمشوش، إلا أنني تماسكت، وتهيأت لبعض من هذا الذي أصبحت أسميه ترفاً في زمن الغارات وانقطاع الكهرباء والـمياه... لـم أناقش ذاتي ما الدافع من وراء ذلك، ولـم أشأ أن أطرد الفكرة من رأسي كما حاولت في الأيام الـماضية... كما أنه لـم يكن هناك تصور ما للكتابة، سوى تلك الرغبة الـمنبعثة من أعماقي كومضات برق متتالية في ليلٍ شتائي حالك. تشبثت جيداً بالقلـم خوفاً من الهروب من الفكرة إلى تناسيها كما فعلت من قبل، أو خوفا من هرب الرغبة ذاتها منيّ... تركت لسجيّتي حرية الانفصال عني غير عابئ بما قد أدوّن...
أو ما قد يظهر منّي...
34:50
استيقظت نشيطاً على غير عادة... كم كنت أرغب في هذا منذ زمن، فقد كانت ليلة هادئة وغير عادية وإن شئت بعضاً من الـمبالغة فقد كانت ليلة رائعة، فلـم أفزع مستيقظاً على انفجار هز هذا الهدوء الطارئ الـمسمى في بلادنا "ليل"...
وإن كانت أذني قد اكتسبت عادة جديدة في التلصص لـما يدور حولي كأن تسبح منذ أن أضع رأسي على الوسادة إلى ما وراء الجدران، بحثاً عن إطلاق رصاص هنا أو هناك، تدفعني إلى الـمزيد من الالتصاق الخفي بزوجتي وطفلتي الوحيدة اللتين ربما لا تدريان لـماذا ألتصق بهما بهذه الحميمية... (رجولتي الشرقية تمنعني من الإفصاح الـمباشر)، هل هو الخوف من مجهول طارئ؟ ربما... ولـم لا أخاف عليهما وعليّ، فنلتصق إذاً جميعاً ببعض متوحدين في النوم والـمصير رغماً عن الحر الخانق ودوي القذائف والرصاص...
لا أدري كم مر من الوقت وأنا أذن على النافذة وأذن خلفها، إلى أن استسلـمت لهذا الخدر الطبيعي الـمسمى نعاس ما قبل النوم فسقطت بغتة في تلك الغيمة الفضية... متجاوزاً كل الأصوات والجدران... وحتى القذائف البعيدة التي لـم تفلح أذناي في التقاطها... لـم تكن كوابيس تلك التي رأيتها في منامي وإنما صور غير متناسقة لي ولأسرتي ولقذائف أصابتنا وأخرى تلاحقنا كما أشباح الخرافات القديمة... جعلتني أمعن الالتصاق بزوجتي وطفلتي بشكل لا إرادي، كمن يمعن في تدثير نفسه بلحاف أثناء النوم...
ليلة بطول ست ساعات سمان... لـم يخترقها أي دوي يذكر... ربما جند يوشع بن نون يستريحون في يوم استثنائي بعد ليال طويلة من القصف...
طفلتي ذات العامين لا تزال نائمة، وجهها الـملائكي يوحي بهذا، ولـم أشأ إزعاجها بتسللي الـمبكر من الفراش وهي التي أصبحت أذناها تلتقط أضعف الأصوات منذ بدء سريالية القصف العشوائي... طفلتي التي أصبحت تصرخ بعصبية بمجرد سماع أي دوي أو ضجة (أَفِفْ) أي قصف بلغتها الـمستحدثة بفعل الغارات...
تحسست بقدمي الأرض بحثاً عن الشبشب إلا أنني صرفت النظر عنه وتسللت إلى الحمام حافياً حذراً من الاصطدام بطرف السرير كي لا أوقظهما هي وزوجتي... (الشبشب....؟؟؟) يا له من اختراع لعين في مثل هذه الأوقات بإمكانه أن يدمر سكون الـمكان، لا سيما وإن كان بلاستيكياً بعمر أسطوري مثل الذي أنتعله أمام زوار اختفوا مع الكهرباء وانقطاع الـماء منذ أكثر من أسبوعين...، لا حاجة لي بهذا الشبشب في مثل هذا الوقت كي لا أجرح سكون الغرفة بدبيب بلاستيكي ثقيل، فطفلتي كما زوجتي بحاجة إلى هذا النوم الذي قد لا يتوفر لاحقاً...
ولا أخفيك القول إن الشبشب يمكن أن يتبادل الأدوار مع الطائرة بالنسبة لطفلتي فكلاهما مصدر إزعاج لها (أقول هذا بواقع الخبرة...) لذا تخليت عن امتطائه بضمير مرتاح فلطفلتي كما ذكرت أذن حساسة كما أذنيّ تلتقط حتى طقطقة الشبشب من وراء حجرتين.. وتبكيها خطواتي الخشنة... التي قد تبدو لها كخطوات حيوان بدائي يدب على أربع ولـم يتعلـم الـمشي الحضاري بعد!!!....
كلاهما... الشبشب والطائرة يجران في كثير من الأحيان ــ إن لـم يراعيا وقت نومها أو قيلولتها أو حتى لحظات تأملها الطفولية للشارع في الأسفل ــ وراءهما سيلاً من الدموع والصراخ الـمصحوب برعب مجهول، يجمدني في مكاني مرتعباً: ماذا أفعل؟...
في حال الشبشب أسارع بالتخلص منه بعفوية ولطم قدمي بكفيّ أمامها معتذراً بالنيابة عنهما محاولاً تهدئتها.. أما في حال الطائرة لطمت مرة الجدران مؤنباً... فابتسمت من وسط الدموع حتى شعرت وكأنها تسخر مني قائلة: بابا أهبل... بالـمناسبة طفلتي ذات العامين لا يسهل خداعها بحيل بدائية كلطم الجدران فهي أصبحت تعرف الكثير من الـمصطلحات الجديدة بحكم التجربة مثل (أباتي) أي أباتشي ... و(ننانة) أي زنانة ... (ببة) أي دبابة... بالأمس فقط قالت أولـمن، لـم أعرف ماذا تعني حتى ظهرت صورة أولـمرت في نشرة الأخبار في وقت عادت فيه الكهرباء لأقل من ساعتين... (قد لا تتصور بريق الفرح في أعيننا عندما تفاجأنا بالتيار الكهربي يغزو البيت بسطوة النور الـمنبعث من لـمبة النيون... وإن كان لساعتين...!!!)، فأشارت إلى التلفاز صائحة بعصبية: أولـمن أولـمن... تسمرت في مكاني مذهولاً هل أضحك أم أبكي.. لـم أدر حقاً ماذا أفعل؟... احتضنتها مردداً: بابا... بابا، وأنا أنظر إلى وجهها الذي تعكر فجأة علها تنظر إليّ فتردد من خلفي اسمي وتنسى أولـمن أقصد أولـمرت، إلا أنها تملـملت وانسلت من بين ذراعي كهرة حزينة، ورفضَتْ باكية.
5:42
تحركت نحو الحمام مستعيناً بما تسلل إلى البيت من ضوء صباحي، أمسكت بيدي زجاجة الماء البلاستيكية الشفافة ورشقت وجهي بالماء مستعيناً بيدي الأخرى.
(عذراً إن سألتني عن هذه الزجاجة .. لا أدري منذ متى و أنا محتفظ بها .. أو من أين اشتريتها ... وهل اشتريتها أصلاً ... هذا سؤال آخر ...افتراضي طبعاً) ...
هي موجودة على كل حال .. من أين ومتى وكيف أسئلة لا تهم في هذا الوقت ... كما لا يهم أن أفكر فيها على أنها أكثر من كونها زجاجة ماء، بمعنى أنه لا حاجة لي هذا الصباح بأن أطلق لخيالي العنان مستعيناً بهذه الزجاجة على تخيل حفلة مثلاً أدعو إليها أصدقاء وأقارب ...
الزجاجة الآن في يدي شاحبة كوجهي الذي أفاق للتو ... كل الافتراضات مؤجلة وكل الحفلات والأصدقاء مؤجلون ...هي الآن زجاجة فقط ... زجاجة ماء لا أكثر ...
ولا أنكرك القول ولا أشعر بأي حرج في القول إنها تعود إلى عائلة المنتجات الأميركية التي طُلب منّا مقاطعتها،( هكذا تبدو بحجمها العائلي وتصميمها الأشبه بقذيفة صاروخية) ...
يا لضيق أفق وسذاجة فكر هؤلاء الساسة كيف يستخفون بالأشياء وبنا... ماذا كانوا ليقولوا لو علموا أن هذه العبوة من شأنها أن تعزز الصمود ـ أكثر من شعاراتهم الموسيقية الرنانة ـ عندما تُقصف إمدادات المياه إلى المنازل، فنلجأ إلى زجاجات تشبهها وعبوات بلاستيكية بأحجام مختلفة من نفس العائلة ربما أو من عائلات أخر ـ إمبريالية المنشأ بالطبع ـ مستعينين بها على نقص الماء بل انعدامه ... على الأقل هذه العبوة سترحل متى انقضت الحاجة من وجودها وما من أحد يشك في أنها تدرك طبيعة ذلك وأنها لن ترافقنا كما معظم الساسة من المهد إلى اللحد ... هل قلت معظم؟... لا يهم ...
على كل حال ...أنا لا أحب السياسة لا الحديث فيها ... ولا التغزل بسلوكها عبر التلفاز وفي الصحف ... أريد حياة هادئة فقط لي ولأسرتي بعيداً عن كل خطط المواجهة الافتراضية وحسابات العقل السياسية والمغامرات ... (بالمناسبة أعجبتني كلمة مغامرات .. فقد دخلت القاموس السياسي العربي على اعتبار أنها ربما عكس مهادنات ... أو موازية لمناكفات .. أو على النقيض تماماً من ... استسلامات ... أو انهيارات...!!!)
على أي حال بعد تأكدي أن كمية الماء في الزجاجة أقل من الربع، فقد كنت حريصاً على أن أستخدم هذه الكمية الباقية بحذر شديد ليس خوفاً من شيء بالطبع!! بل زوجتي التي أصبح من مهامها اليومية بمجرد أن تفتح عينيها في الصباح الباكر مراقبة منسوب المياه ـ ليس في مواسير الإمدادات حتماً ـ وإنما في الزجاجة عينها المعدة للطوارئ ...
سأعد فنجان قهوتي بالمتبقي من الماء في الزجاجة بعد أن قاومت مغامرة الاستحمام في الصباح، فهي لن تكفي بالتأكيد، وربما هذه مفارقة أخرى لمدمن سجائر مثلي ... عندما تضعه الأقدار أمام خيارين .. فنجان قهوة وسيجارة أم حمام صباحي بكأس واحد من الماء في شهر تموز؟ ... بالطبع السيجارة وفنجان القهوة أولاً وليذهب الجسد بعد ذلك إلى جحيم التعرق ...
ربما كان هذا فكراً استراتيجياً قي تحديد الأولويات، أو هكذا أقنعت نفسي... ففي مثل هذه الحالة يبدأ التفكير في استثمار الماء بشكل فعال ولكن ماذا عن الأجيال القادمة ؟ (هل قلت قادمة؟... من أين؟... لا أدري ...)، لا أدري حقاً من أين قفزت إلى رأسي فكرة الأجيال القادمة، وأنا أراقب الماء في الزجاجة، هل هو خوفنا الدائم من مجهول ما؟ أو سؤالنا القلق عما تركنا أو سنترك لهم؟ ... لن أتورط في هذه الجدليات على الأقل هذا الصباح...
المهم الآن أنني لابد أن أستخدم بعض المكر في إقناع زوجتي أن عبوة الماء لم تكن ممتلئة ولا حتى إلى نصفها، فإذا ما سألتني كعادتها: أين ذهب الماء؟ أستطيع حينها التحايل بأية قصة يخترعها خيالي... إذاً لابد من البدء في تنفيذ بعض التكتيكات لذلك ...مثل أن أضعها بشكل مائل في الحمام لتوحي بأنها فارغة منذ أمس ...هي على كل حال ستتدبر أمر الماء بشكل أفضل مني عندما تبدأ نشاطها اليومي في سؤال الجارات والبحث معهن عن مصدر لملء عبواتنا من جديد...
5:48
المطبخ يعج بضوء فضي سرقته النافذة الشرقية من الفضاء الصباحي ...لم أجد صعوبة في العثور على علبة البن، (هي الأخرى شبه فارغة... لا يهم فليكن فنجان القهوة هذا الصباح خفيفاً)... الوقت يداهمني فكل شيء يجب أن يتم وبسرعة وإتقان قبل أن تستيقظ زوجتي.. .بالأخص الانتباه لعدم فوران القهوة أثناء غليها كي لا أخسر رشفة أو اثنتين، وكي لا أضطر لتنظيف آثار هذه المغامرة... بالإضافة إلى عودة العبوة إلى الحمام، الطريقة التي يجب أن توضع بها، شطف الغلاية والفنجان بربع كأس من الماء (مع مراعاة دقة التنظيف كي لا أنكشف...)، لقد كنت فعلا قلقاً من أن أسقط في فخ لسانها و خصوصاً في الصباح... والاستماع إلى محاضرة في فنون التقنين والتوفير والاقتصاد، إلا أنه هناك ما يستحق المغامرة والتوقيت مناسب و ضميري لا يؤنبني كثيراً...
أقنعت نفسي أن فنجان قهوتي هذا لن يؤثر على مخزونها الاستراتيجي سواء من البن ولا حتى من الغاز والماء مقارنة مع احتياجاتنا الإنسانية والمنزلية الأخرى، فمع نهار جديد تولد احتمالات جديدة وابتكارات أخرى من أجل البقاء... أليس كذلك!!!
فالماء على سبيل المثال لن يكلفنا أكثر من البحث مع أحد جيراننا عن مصدر موثوق لملء عبوتنا البلاستيكية الشفافة وغيرها إن أمكن...
5:55
أشعر بنشوة مع تحقيق هذا الإنجاز ...إنها بلا شك بداية رائعة ليوم عادي في أحسن الأحوال...
سيجارة مع فنجان قهوة و كل شيء في مكانه الملائم...
الشمس كأنها تغازلني بدهاء صامت، كونها مصدر النور الوحيد، ولن أستطيع التذمر منها في تموز... كعادتي في أعوام أصبحت وكأنها أبعد من خيال عني...
مازلت أقف قبالة نافذة المطبخ الشرقية... جاري يشير إليَّ من شرفته المقابلة، أشير إليه بدوري بتواطؤ غير مفهوم... هل هو أيضاً اقتنص فنجان قهوة وسيجارة ـ من وراء زوجته ـ من مخزون المياه في البيت؟ ... ضحكت من هذا الاعتقاد وأنا أشير إليه بإبهام مرفوع إلى الأعلى ... قد يفهمها على أنني سعيد بنجاتنا من موت كان محتملاً ليلة أمس إذا ما أغارات الطائرات، وقد يفهمها أنها تواطؤ خفي على جريمة صغيرة كالتي اقترفتها للتو ... أنا شخصياً لم أفهم ماذا عنيت بذلك الإبهام المرفوع إلى الأعلى فأتبعتها بتلويحة سريعة واختفيت من وراء النافذة إلى مكتبتي المتواضعة بحثاً عن ورق للكتابة ... هل جاءت فكرة الكتابة الآن؟ ... هل هبط ...أو سقط ... أو نزل وحي الكتابة للتو؟ .. لا أدري، على كل حال الوقت مازال مبكراً للذهاب إلى العمل، أستطيع اقتناص عشرين دقيقة من هذا الصباح لممارسة بعض من ترف الكتابة. لاسيما أنني عبأت رأسي بفنجان قهوة وسيجارة تساعدانني على ترف كهذا !...
فلأبدأ بالكتابة إذاً ...لا يهم البداية من أين أو لماذا، المهم استثمار الوقت المتاح بسرعة...
6:05
وقت مستقطع خارج العشرين دقيقة مازلت أكتب.... فقط للتنويه لم تستيقظ زوجتي بعد... ربما استيقظ وعيها الآن قبل أن تفتح عينيها، وبدأت تجوس بيدها الفراش بحركة لا إرادية، متفقدة إن كنت ما زلت مستلقياً بجانبها وطفلتنا أم لا... ربما بدأت في التساؤل عن سر انسلالي المبكر من الفراش... هل فكرتْ أنني من الممكن أن أكون في هذه اللحظة جالساً إلى طاولة الطعام منفقاً بعضاً من الوقت للكتابة !!! قد يبدو لها هذا فعلاً استثنائياً أو ترفاً كما قلت... هي التي أصبحت تنفق ُجلّ وقتها في التفكير بأمور ـ أكثر جدية ـ ككيفية الحصول على الماء وتأمين الشمع واحتياجات البيت الأساسية من معلبات أو خضار... إن توفرت طبعاً !!!
زوجتي الحبيبة ربما تقع هذه الأوراق بين يديك بحجة فضول أنثوي ـ كعادتك في تقليب أوراقي بين فترة وأخرى ـ أولسبب آخر أجهله حتى اللحظة... أود في كل الأحوال أن أعترف لك ببعض الأشياء: أعتذر عن سرقة ما تبقى من الماء في الزجاجة لصنع فنجان القهوة هذا الصباح،... أجل هذا ما فعلتْ ...، إنها عادة اكتسبتها بسبب واقعنا الجديد وهي بالمناسبة ليست وليدة هذا الصباح فقط ، بل عمدت إليها منذ بداية انقطاع التيار الكهربائي والماء...
حبيبتي، أعلم حرصك على الماء ـ من أجلنا بالطبع ـ، وأدرك تماماً سرّ فوراتك الغاضبة مع محاولاتي التسلل إلى المطبخ بغية صنع فنجان قهوة، فالقهوة في برنامج الطوارئ لديك هي آخر خياراتنا بعد أن نستفيد من الماء في خيارات أكثر أهمية (كالأكل وتنظيف الأواني وغسل الملابس...) أعلم جيداً أنه ليس بمقدورنا الحصول على الماء كل يوم، وأنه يجب أن ندخر الكميات المتوفرة لدينا أطول فترة كاحتياطي... ولكني في كل مرة أسطو على زجاجة الماء (المخبأة كمخزون احتياطي للطوارئ) لأعد فنجان قهوة قبل استيقاظك، أو أثناء غيابك عن المنزل لقضاء حاجة ما ... أشعر أنيّ أعزز صمودي أيضاً، أنيّ لم أتنازل في أجواء القصف والحصار عن أبسط حقوقي في شرب فنجان من القهوة مع سيجارة ... (لن أجادلك في فكرة الحقوق والواجبات أحفظ وجهة نظرك عن ظهر قلب).
لقد كنت أقرا في عينيك في الأيام الماضية تلك التساؤلات الغامضة الماكرة في كثير من الأحيان أو الاتهامات غير المباشرة لي عن فقدان الماء، و كنت أهز رأسي بجدية مصطنعة، واستغراب مقنّع موحياً بأني لا أعلم شيئاً، بل كنت أرد اتهاماتك تلك باتهام طفلتنا أنها ربما كانت هي التي سكبت الماء عن طريق الخطأ أو شربت من الزجاجة بعفوية يتقنها الأطفال... وكنت تهزين رأسك في كل مرة بنوع من الاستسلام المصطنع وأنا متيقن أنك تعلمين بأني لم أكن صادقاً.
آسف على هذا الاحتيال البريء... أعلم أنك ستتفهمين أنانيتي في إعداد فنجان قهوة ...
بعد قليل سأذهب إلى عملي كعادتي... السماء هادئة على غير عادة ... حتى اللحظة...
بعد قليل ستستيقظين لتفقد جرائمي الصغيرة بحق الماء والبن وبحقك أنت وطفلتنا الغالية التي كنت أشير إليها بتلك الجرائم الصغيرة، وربما ستهزين رأسك كعادتك في انتظار قصة مركبة ألفقها لتمرير احتيالي البريء لسرقة بعض من الماء ...
أعلم أن هذه الاحتيالات الطفولية ستضحكك الآن رغم حنق أكاد أراه على وجهك... وأنك ستتمتمين بسخرية: أشعر وكأني أم لطفلين لا واحد ...
ومن قال إني لست طفلاً كبيراً يحب المغامرة والمشاكسة وأيضاً شرب القهوة مع سيجارة حتى في الحصار ...
حبيبتي أعلم أني أكمل عاداتي بنوع من الأنانية والتحايل ( لنتفق على أنه تحايل برئ ... لا أكثر...) أفعل هذا بإصرار خفي لا أدري مصدره... ربما كي لا يهزمني هذا الحصار و القصف ولا حتى انقطاع المياه من الصنابير أو انقطاع الكهرباء ... ربما كي لا تهزمني نفسي، فينتصر بداخلي اليأس...
قد يكون هذا نوعاً من الجنون ... فليكن...
أحبكِ كثيراً ...
25 تموز 2006
للتنويه : القصيدة المرفقة مع الفيديو بصوت الدكتور ايهاب بسيسو (كاتب القصة ) ألفها عام 2004 ، وقد تم نشرها وانتاجها مع الفيديو عام 2008 ، الى جانب ذلك فأن القصة وتفاصيلها كتبها و نشرت عام 2006
وقد اعدنا نشرها اليوم ( 2014 ) بعد عشر سنوات وذلك تأكيدا على انه ما زال مشهد الحرب على غزة مستمرا حتى اليوم
25/7/2006 - 24/7/2014
شعر وصوت وقصة : دكتور ايهاب بسيسو
[email protected]
أضف تعليق