تعتبر الفترة الحالية التي نمر بها استثنائية فعلا بكل المقاييس في حراجتها ودقتها وتغير القوى والموازين الفاعلة فيها اقليميا ودوليا. خاصة في درجة رثة واهتراء الوضع العربي وبشكل بارز في ما كان يسمى دول المواجهة وتشتت الوضع الداخلي الفلسطيني لدرجة التمزق بالرغم من الإعلان الرسمي عن المصالحة وإقامة حكومة الوحدة الوطنية فهل من المعقول ألا تهب مدن الضفة الغربية لمؤازرة غزة بينما يخرج فلسطينيو الداخل ومعهم مئات الألوف في اليمن والمغرب وكل المدن الأوروبية والأمريكية مطالبين بوقف الحرب الاجرامية والعدوان الهمجي على غزة. كم من الدم الفلسطيني يجب أم يسفك بعد وكم من المجازر سترتكب إسرائيل في غزة حتى يتحرك العالم وهذه المرة نقول بكل أسى وحتى يتحرك الشارع الفلسطيني الذي حتى جريمة القتل الهمجي للفتى محمد أبو خضير لم تجعله يفلت من قبضة القوى الأمنية والتنسيق الأمني.

من ناحية أخرى هناك إرتفاع غير مسبوق في منسوب العنصرية والتطرف اليهودي الإسرائيلي بقيادة حكومة يسيطر عليها فعلا اليمين المتطرف والمستوطنون. أصوات يهودية معتدلة تتخوف علنا من أن اغتيال عرب وحتى يهود ممن يتظاهرون ضد الحرب هو مسألة وقت. اجتمعت هذا الاسبوع مع مجموعة من الشباب اليهود التجمعيين فكرا ونشاطا وكان بينهم إجماع أن درجة الفاشية والعنصرية في المجتمع الاسرائيلي غير مسبوقة والأخطر هو الاجماع الداخلي شبه الكامل حتى في أوساط ما كان يسمى اليسار الاسرائيلي وقوى سلام الآن على ضرورة ضرب غزة وتحطيم حماس. لست ممن يقولون "اشتدي أزمة تنفرجي" ولكني وبالضرورة أقرأ الصورة على حقيقتها وأبحث بواقعية عن نقاط الضوء والقوة وعن امكانيات استغلال الأزمات لإيجاد الفرص للتغيير وإحداث إختراق في ما لم يكن من الممكن تحقيقه في الأوضاع العادية. وأريد هنا أن أسلط الضوء على وضعنا عرب الداخل وعلى المتغيرات الحاصلة في داخلنا وما يتوجب علينا أن نعمله بالمستقبل القريب.

تحت الحكومة الحالية وسابقتها تعرض الفلسطينيون حاملو المواطنة الاسرائيلية إلى سلسلة من مشاريع القوانين العنصرية وحملات التحريض العنصري والاقصاء وصولا إلى ممارسات وقوانين تمس بمجرد استمرار الوجود مثل قانون برافر واستمرار سياسة هدم البيوت والمصادرة والاقصاء السياسي برفع نسبة الحسم لمنع التمثيل العربي في الكنيست وتصعيد سياسة القمع والتضييق على أي مظهر من مظاهر الاحتجاج السياسي إلى درجة العودة إلى ممارسات المخابرات وأجهزة القمع في سنوات الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. لكن المجتمع الفلسطيني في الداخل وحركته الوطنية فاجأوا المؤسسة الصهيونية بتمسكهم ليس فقط بحقوقهم الجماعية وبهويتهم الوطنية وانما بكونهم جزء حي ومتفاعل من الشعب الفلسطيني قادر على التحرك وبسرعة للتأثير على مجريات الأمور للدفاع عن الحق الفلسطيني في مواجهة استمرار الاحتلال والاستيطان وسياسة الفصل العنصري. المفاجأة الكبرى كانت في التجند الشبابي للمظاهرات والمواجهات الاحتجاجية ومن ثم في تحوله إلى رأس الحربة في النضال الميداني بداية في التصدي لقانون برافر العنصري وبعدها في مظاهرات التضامن مع الأسرى الفلسطينيين المضربين عن الطعام وفي الرد السريع والمتواصل على ممارسات الاحتلال منذ اختطاف الشبان اليهود وخاصة في الرد على القتل الوحشي للفتى محمد أبو خضير من شعفاط. هذا وبدون مبالغة جعلنا رقما صعبا في معادلات الصراع السياسي في المنطقة مما دفع بعض الحللين الاسرائيليين للقول بأن نتانياهو يأخذ موضوع رد فعل الفلسطينيين في الداخل على ما قد يحث في غزة في حساباته للحرب.

سوية مع هذا الحراك والنشاط الحيوي والمبارك ظهرت أزمة القيادة أو بالأحرى غياب المؤسسات القيادية الجماعية للمجتمع الفلسطيني في الداخل وحقيقة كون لجنة المتابعة العليا ليس أكثر من إطار تنسيقي بين مركباته لا قدرة له ولا حول ولا إمكانيا تنفيذية ينتهي وجوده بانفضاض اجتماعه. وتحولت لجنة المتابعة إلى منفس لغضب وخيبة أمل جماعية يصب جام غضبه عليها وكأنها مؤسسة ممكن مساءلتها أو محاسبتها. ولكن حقيقة أن نقد "القيادة" أو "لجنة المتابعة" وتوجيه النصائح لها أحيانا والتحريض عليها أحيانا أخرى خاصة من قبل بعض المثقفين العاجزين سوى عن توجيه الوعظ والنقد اصبح تعميما غير مسؤول يسهل الهروب إليه من باب "كفى الله المؤمنين شر القتال". ألمطلوب هو التعامل مع أزمة غياب المؤسسات الجمعية القيادية والبنى الوطنية القومية الجامعة وهنا الموضوع ليس فقط للاجتهاد والتنظير وإنما للبدء في البناء والتنفيذ. ولربما بالذات الآن ونحن وشعبنا كله يمر في هذه الظروف العصيبة جاء الوقت لكي تبدأ الانطلاقة لبناء لجنة المتابعة وفورا من دون تأخير البدء بخطوات عملية ومتفق عليها لوضع الأسس لتفعيل لجنة المتابعة كمؤسسة لها جهاز وظيفي يعمل على تنفيذ القرارات وعلى وضع السياسات وخاصة الاعلامية والتوثيق وبناء قواعد المعلومات. هذا يتطلب التوافق على رئيس مهني يعمل بوظيفة كاملة مع طاقم أو مدير مهني متفرغ يعمل تحت رئيس يكون شخصية سياسية متوافق عليها من قبل الأحزاب ممكن أن تكون شخصية حزبية تتوالى دوريا على الرئاسة أو شخصية توافقية لأربع سنوات. الشرط الأول والأخير هو مأسسة اللجنة وهذا يتطلب الموارد الأولية التي لا يمكن بعد قبول تهرب مركبات لجنة المتابعة وخاصة الأحزاب الكبيرة من تحمل المسؤولية عنها كما لا يمكن بعد تقبل وضع تكون فيه لجنة المتابعة مكانا لجولات وصولات خطابية للبعض ويكون هذا هو التعبير الوحيد عن وجوده السياسي. يمكننا وخلال أسابيع قليلة لو توفرت الإرادة السياسية لدى مركبات لجنة المتابعة الرئيسية الإرتقاء بعمل لجنة المتابعة من خلال التوافق على رئيس دوري ومدير مهني معين مع طاقم ملائم أو رئيس متفرغ متوافق عليه هذا يتطلب أمران: قرار واضح لدى القوى السياسية الرئيسية بالبحث عن التوافق وتغليب المصلحة الجماعية خاصة في هذا الظرف العصيب والأمر الثاني تخصيص الدعم المالي بالحد الأدنى وذلك بالتزام كافة مركبات لجنة المتابعة بتوفير الدعم الشهري ( في حدود المئة ألف شيكل شهريا) حسب صيغة مشتقة من تمويل الأحزاب الممثلة بالبرلمان وتلك غير الممثلة بحيث يكون توزيع مصادر الميزانية توزيعا عادلا ويؤمن استقرار مالي لعمل اللجنة ولدفع التزاماتها الأولية. طبعا من المفروض أن يقوم الطاقم المهني على توفير دعم مالي إضافي من مصادر محلية وعالمية لبناء وتوسيع هيئات لجنة المتابعة. لا يمكن قبول وضع لا يشارك فيه الجميع في تمويل لجنة المتابعة من يشارك في اتخاذ القرار كمركب في لجنة المتابعة عليه المساهمة ولو بالحد الأدنى في بنائها وتمويلها وليس فقط بالمشاركة في اجتماعاتها وتسجيل المواقف بها.

ليس أقل أهمية هو انفتاح لجنة المتابعة للقوى المجتمعية الجديدة الفاعلة والمؤثرة مثل الحراكات الشبابية ومؤسسات المجتمع المدني وزيادة التمثيل والتأثير النسائي سواء من خلال المركبات القائمة أو بضم مؤسسات نسوية ذات حضور جماهيري. هذا الانفتاح يجب ألا يكون مرتبطا بعملية إعادة البناء وما يرتبط به من ضرورات بيروقراطية وتوازنات حزبية وانما انفتاح فوري بدعوة هذه القوى لحضور اجتماعات المتابعة والمشاركة بها وإسماع صوتها.

النقد الشعبي والضغط يجب أن يتوجه إلى هذا المنحى لأنه وللمرة الألف يثبت بأن شعبنا يريد ويستجيب للعمل الجماعي والمشترك ويرى أنه لا بديل عن وجود لجنة المتابعة ومطلبه شرعي بأن يتم تطويرها لكي ترتقي لتحديات المرحلة. عدم القيام بخطوات جدية وعملية في هذا الاتجاه سيعني بالضرورة بدء البحث عن بناء بدائل ستنمو من القاعدة الشعبية وستفرض نفسها على المشهد السياسي. 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]