تشهد بعض المجتمعات، وخاصّة العربية منها، جدلا واسعًا حول ظاهرة زواج القاصرات، وفيه يتمّ تزويج فتيات لا تتجاوز أعمارهنّ 12 عامًا، من رجال متقدّمين في السّن قد تصل أعمارهم إلى 50 سنة وأكثر. وقد لفت انتباهي، بطريق الصدفة، تناول إحدى محطات التلفزة لهذا الموضوع وطرحه بكلّ مصداقيّة، جرأة، وصراحة بمشاركة إخصائيين، ولا أخفي كم كنت منفعلا ومتأثرًا، ولا أبالغ إذا قلت كادت أنفاسي تنقطع، وخفقات قلبي تتسارع، وتنهمر دموعي، متسائلا: كيف يمكن أن يقبل العالم الحضاريّ والحرّ وجود مثل هذه الظاهرة وهذه المعاناة؟ نعم، إنّها ظاهرة أعتبرها كارثة أخلاقيّة، ولا أعتقد أن هناك من يعارضني الرأي، رغم صعوبة استيعاب هذه الحقيقة.
إنّ ما تعكسه هذه الظّاهرة من مشاعر التّجرّد من الإنسانيّة دفعتني لأن أتطرق إليها صارخًا في وجه البشرية أن أوقفوا مجزرة القتل والاغتصاب المشترك فورًا!
تُعتبر هذه الظاهرة المقلقة المنتشرة في الكثير من المجتمعات العربيّة، وخاصّة القرى والأرياف والمناطق المعزولة، مشروعًا استثماريًّا ومَكْسبًا ماديًّا للأهل ... ! إنّها عمليّة رقّ واستعباد للفتاة القاصر التي لا حول لها ولا قوة، وسلب طفولتها وقتلها مرارا، وسجن روحها البريئة وحريتها وانتهاك كرامتها، وهذه أبشع جريمة اغتصاب نكراء بمشاركة الأهل، والوسيط (السمسار)، والزوج الذي لا يعرف معنى الرأفة والرحمة، ناهيكم ما سيخلِّف هذا الزواج الفاشل من مشاكل يصعب علاجها سواء كانت صحيّة أم اجتماعية، تربوية أم نفسيّة، وغيرها.
فبربكم، ما ذنب تلك القاصر التي لا تزال بحاجة إلى حضن أمّها ورعايتها دون أن تفهم دورها ومدى المسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتقها؟!
جميع الدّيانات السماويّة حرّمت زواج الفتاة قبل بلوغها، وكلّ المنظمات الاجتماعيّة والإنسانيّة ندّدت بهذه الظاهرة، لكن من المؤسف جدّا أن نجد بعضا من المجتمعات تحلّل وتفسّر الشّرع حسبما يروق لمزاجها ومصالحها. وممّا هو متعارف عليه بين البشر أنّ الفتاة أو الفتى لا يزوّجان قبل البلوغ، لذا لم يتطرّق النّصّ القرآنيّ للموضوع كونه فطرة إنسانيّة معروفة، لكنّه ألمح إلى ذلك في حديثه عن رعاية مال اليتيم في قوله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتّى إذا بلغوا النّكاح فإنْ آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} (النّساء، آية 6). فالآية تتحدّث عن بلوغ اليتيم سنّ النّكاح موضّحة أنّه أصبح مؤهّلا جسديّا وجنسيّا للزّواج، إنّما ينقصه أن يكون مؤهّلا عقليّا ليتمكّن من إدارة أمواله بالصّورة الصّحيحة.
ويُفهم من حديث للرسول محمّد صلّى الله عليه وسلم، منع زواج القاصر وفيه يقول: "لا تُنكح الأيّمُ حتّى تُستأمرَ، ولا تُنكَح البكرُ حتّى تُستأذنَ"، فلا وجهة شرعيّة لاستئذان القاصر؛ لأنّها غير مكلّفة، وغير قادرة على اتّخاذ قرار قائم على العقل والتّفكير السّليم.
تتصدى المؤسّسات، المنظمات، والنقابات الاجتماعية، الإنسانيّة، والتربويّة على اختلافها لظاهرة زواج القاصرات، وتؤكّد بدورها أنّ هناك تقارير تشير إلى أن نسبة الوفيات والأمراض بين الأمهات الصغيرات آخذه بالازدياد، وان هناك ما يزيد عن 35 مليون فتاه قاصر في العالم تمّ تزويجهنّ من سن 10 سنوات ودون السابعة عشرة .
الزّواج السياحيّ
وممّا يثير الدّهشة، أن هناك أهالي يسعون ويدعمون هذا الزواج، إذ يقومون بتزوير تاريخ الولادة ودعمه بوثائق كاذبة، كدليل على نضوج ابنتهم القاصر من ناحية فيسيولوجيّة، معتبرين هذا الزّواج، وبكل وقاحة وبساطة، عبارة عن إعارة عمل في الخارج تنتهي منه الفتاة القاصر عندما يرحل الرجل الغريب الذي تمّ زواجه منها، لمدة أسبوع أو أكثر، وذلك لأنّه إنسان عابر سبيل ثريّ أو سائح، مقابل المال.
وتبقى قضيّة الفتاة اليمنية نجود محمد علي التي لم تتجاوز الثمانية أعوام، والتي حصلت على الطلاق بعد شكوى قدّمتها ضدّ والدها الذي أرغمها على الزواج برجل ثريّ يكبرها بثلاثة أضعاف عمرها؛ شاهدا حيّاً على مواصلة هذه الممارسات ضدّ الفتيات القاصرات الأمر الّذي أثار في حينه وما زال يثير ردود فعل صاخبة غاضبة، وجلبة إعلاميّة واسعة، هي مجرد نقطة من بحر الاستنكار لهذه الظّاهرة.
رماح تؤكد، وتعتبر زواج القاصرات جريمة نكراء لا يكفي أيّ عقاب ضدّ مرتكبيها، وهو تحدٍّ للقيم والأخلاق والقانون، للحضارة، للدين، للحرية، للإنسانيّة، وللعدالة. إنّه جريمة لا تغتفر؛ لأنّ حرية الزواج والاختيار حق مقدّس لكل إنسان، وحرية مطلقة لا يحق لأحد كان من كان انتهاكهما..
[email protected]
أضف تعليق