كثير من المحلّلين وقليلي "الحيل" كانوا يتحدثون عن القدس وكأنها منتهية، ولم يعد للوجود الفلسطيني فيها أي دور، وأن مسلسل التهويد ابتلع الأخضر واليابس.. الأسرلة تعمّقت في أحياء المدينة.. بحيث لم تعد هناك إمكانية لإيجاد حل سياسي للقضية الأكثر أهمية بالنسبة للشعب الفلسطيني.
صحيح أن القدس تعرّضت لضغوط لا يمكن تصوّرها، وتركت وحيدةً تقارع أخطر وآخر احتلال في هذا العالم بما تملك من إرادة أهلها وصمودهم.
السياسة الإسرائيلية التي بنيت على قاعدة فرّق تسد من خلال إعطاء بعض الامتيازات الاقتصادية والمعنوية للمقدسيين، وخاصة في مجال الحركة داخل "الخط الأخضر" وحتى على المعابر أو مخصصات "التأمين الوطني" وغيرها... حاولت إيجاد شرخ حقيقي بين المقدسيين وأبناء شعبهم في مدن وقرى ومخيمات الضفة... إلاّ أن هذه السياسة فشلت فشلاً تاماً، وظهر ذلك جلياً ابتداء من اليوم الأول للاحتلال وحتى الآن... ففي القدس تشكّلت الحركة الوطنية الفلسطينية التابعة لمنظمة التحرير مباشرة، وكانت المدينة عاصمة فعلية للعمل الوطني المقاوم.. على الرغم من كل محاولات الاحتلال القمعية من خلال الاعتقال أو الإبعاد أو مصادرة العقارات وتسريبها بطرق إجرامية وبالتزوير...

وفي الانتفاضة الأولى، كانت القدس عاصمة القرار الوطني.. وهي التي تصدّرت المواجهات الشعبية مع قوات الاحتلال.. وهي التي كانت تطبق ما تطلبه القيادة الوطنية الموحّدة.. فالتزمت المحال التجارية بالإضراب طوال سنوات الانتفاضة... رغم محاولات الاحتلال قمع الإرادة الفلسطينية من خلال تحطيم أبواب المحال التجارية، إلاّ أن ذلك لم يمنع أو يحدّ من تصاعد الانتفاضة وانتشارها في كل أحياء المدينة وعلى رأسها البلدة القديمة... بحيث إن الوجود اليهودي أو الاستيطاني فقد بشكل شبه تام في تلك الفترة... ولم يبق في القدس العربية إلاّ مظاهر العسكرة الإسرائيلية.

هبّات القدس الجماهيرية لم تتوقف بالمطلق، وكانت دائماً كالجمر تحت الرماد تشتعل ناراً ثم تعود لتهدأ دون أن تنطفئ جذوة الانتفاضة.

بعد اتفاقية أوسلو حاولت سلطات الاحتلال تكريس أمر واقع جديد... مستغلة الأوضاع الصعبة، وخاصة الاقتصادية التي مرت بها السلطة الوطنية، وبدأت سلطات الاحتلال تعزف على وتر الامتيازات من جديد، وكأن هناك شعبين... مستخدمة كل أدواتها القذرة حتى في لون بطاقة الهُويّة الذي أصبح يمثل رمزاً ما... الهُويّة الزرقاء للمقدسيين والهُويّة الخضراء لباقي الفلسطينيين في الضفة... وخلقت مصطلحاً جديداً هو القدس والضفة... حتى في قضية المخالفات التي ترتكب خارج القدس في مدن الضفة أصبحت تحرّض المقدسيين على أنهم مواطنون مقيمون في دولة إسرائيل، وعليهم عدم الرضوخ لقرارات السلطة.. ولكنها، أيضاً، فشلت في ذلك... ففي أحداث النفق في العام 1996 كان أول من أشعل المنطقة هم المقدسيون الذين تصدُّوا لإجراءات الاحتلال.

وعند اقتحام أريئيل شارون المسجد الأقصى في العام 2000، كان المقدسيون في المقدمة، ومن القدس انطلقت شرارة الانتفاضة الثانية... التجربة الأخيرة في مسلسل القتل التهويدي هي إقامة جدار الفصل العنصري، ومحاولة فصل أكثر من نصف المقدسيين عن البلدة القديمة والأحياء المجاورة لها وتكثيف سياسة سحب الهُويّات المقدسية، ووقف البناء بشكل شبه تام... والتضييق بكافة السبل... في محاولة لخلق مفهوم جديد من الهدوء القائم على القوّة... إلاّ أن المقدسيين عادوا ليؤكدوا من جديد أنهم أبناء الوطن وقلبه النابض... فالهبّة الجماهيرية أكدت بما لا يدع مجالاً للشك فشل سياسات التهويد والأسرلة التي استخدم فيها الاحتلال أدوات كثيرة أثبتت في النهاية فشلها.

وسائل الإعلام الإسرائيلية في مجمل تعليقاتها وصفت أحداث الأيام الأخيرة في القدس بالانتفاضة الأولى من حيث الشكل وحجم المواجهات والفئات العمرية المشاركة فيها...

إذن هي القدس العاصمة... قدس الانتفاضة التي أثبتت من جديد أنها قادرة على تسديد رصاصة قاتلة لمسلسل التهويد والأسرلة.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]