شكل اختطاف وقتل الفتى الفلسطيني محمد أبو خضير من قبل مستوطنين في القدس الشرقية، عنواناً لهبة شعبية ضد الاحتلال الإسرائيلي في حي شعفاط ومناطق أخرى في القدس المحتلة، في وقت تحاول فيه إسرائيل تطويق هذه الهبة ومنع امتدادها إلى باقي أنحاء الضفة الغربية.

قد تكون أبعاد هذا الاعتداء الاستيطاني الهمجي ثأرية بالأساس، خصوصاً وأن حادثة الخطف وقتل أبو خضير تزامنت مع الكشف عن جثث المستوطنين الثلاثة، لكن في كل الأحوال لا يحتاج المستوطنون إلى فعل فلسطيني حتى يقوموا بأفعالهم العنصرية والمشينة.

في الضفة الغربية نسمع قصصاً كثيرة جداً عن اعتداءات من قبل مستوطنين على الفلسطينيين وعلى جميع ممتلكاتهم، ويجري هذا التضييق بأمر من الحكومة الإسرائيلية التي تسعى لتوسيع نفوذها هناك عبر بناء المستوطنات الجديدة، والدفع بالمستوطنين لإفساد حياة الفلسطينيين.

رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو لا يريد أبداً سلطة فلسطينية قوية، ولا يريد دولة جديدة متاخمة لحدود إسرائيل، وكل ما يريده هو سلطة قادرة فقط على تسيير وإدارة حياة الناس، في الوقت الذي تسحب فيه إسرائيل البساط من تحت أرجلهم بمواصلة الاستيطان والتغول في الضفة.

ولا يريد نتنياهو أيضاً مواجهة شعبية واسعة كما حصل في الانتفاضة الأولى، خصوصاً وأن تكاليف هذه الانتفاضة ستكون مرهقة بالنسبة لإسرائيل، لذلك سمعنا عن إدانة من قبل الحكومة الإسرائيلية لحادثة قتل الفتى الفلسطيني.

إن أكثر ما يخافه رئيس الحكومة الإسرائيلية، هو توسع رقعة المواجهات الشعبية ووصولها إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، لأن ذلك بالنسبة له سيعني أكثر من جانب، الأول أن الفلسطينيين سيتوحدون في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي.

الأمر الثاني أن الانتفاضة ستكون موجهة ضد كل أشكال الاحتلال، لا يقتصر الفعل الفلسطيني على تجريم الاحتلال واعتداءاته وفضحه في المحافل الدولية، وإنما سيشمل ذلك التنديد بالاستيطان وبجدار الفصل العنصري وجميع السياسات الإسرائيلية.

لهذه الأمور دعا نتنياهو الطرف الفلسطيني إلى التهدئة، مع أن رئيس الحكومة الإسرائيلية كان يدرس قبل استشهاد الفتى أبو خضير، مجموعة من الخيارات لمعاقبة جميع الفلسطينيين ضمن سياسة إسرائيلية قائمة على التركيع وإبقاء الفلسطيني عند حدود التنفس الاصطناعي.

ومثلما استثمر نتنياهو موضوع خطف المستوطنين الثلاثة لجهة تعميق الاستيطان واحتلال الضفة الغربية وضرب قطاع غزة، فإنه سيستثمر مقتل هؤلاء في استكمال نفس مشواره، والأهم أنه سيحاول بقوة اللعب على التناقضات الداخلية الفلسطينية لإبطال مفعول المصالحة.

في هذا الوقت تحديداً، ربما سيحاول نتنياهو التحوط من إبقاء المواجهات الفلسطينية الشعبية في حدودها الدنيا، لأنها إذا توسعت فإن ذلك سيعني فشل مخططاته، الأمر الذي سيدعوه إلى عدم ارتكاب حماقات كبيرة من شأنها أن تثير ردود فعل فلسطينية قوية.

في هذا الإطار تلوح مجموعة من السيناريوهات التي قد يأخذها نتنياهو بعين الاعتبار، أولها أنه مشغول بالضفة الغربية من ناحية تكريس الأمن فيها تحت شعار حماية المستوطنين هناك، أي أنه سيتخذ من مقتل المستوطنين الثلاثة ذريعة لدفع مئات الجنود وإعادة تمركزهم في الضفة الغربية.
أكثر ما يهم نتنياهو هو الاستيطان، الذي ينظر له باعتباره حقاً إسرائيلياً تاريخياً غير مرتبط لا بأجندة المفاوضات ولا بأي أجندة أخرى حتى في زمن الحرب، وتعزيز الاستيطان كان أحد الخيارات المفضلة لدى نتنياهو لمعاقبة الفلسطينيين على مقتل مستوطنيه الثلاثة.

وبالفعل، أوعز رئيس الحكومة لوزير حربه موشي يعالون ببناء مستوطنة جديدة في منطقة "غوش عتصيون" حسب الأخبار الفلسطينية المتداولة، مستثمرين حادثة مقتل المستوطنين، وفشل العملية السياسية مع الطرف الفلسطيني، إلى جانب غياب الوسيط الأميركي بعد شلل المفاوضات واستقالة المبعوث مارتن انديك.

نتنياهو على الأرجح أنه لن يصعد ضد قطاع غزة إلى حد إطلاق عدوان عسكري واسع النطاق هناك، لكنه سيعمل على توسيع عدوانه باستهداف قيادات سياسية وعسكرية فلسطينية، وسيبقي النار مفتوحاً من الجو والبر والبحر على الفلسطينيين.

ما يهم نتنياهو هو إضعاف "حماس" أولاً بأول، وإبقائها في حدود المقاومة غير المهددة بالمعنى الحقيقي لإسرائيل، وهذه الأخيرة لم تبتعد يوماً عن قطاع غزة، وهي تدير حرباً مفتوحةً معه بواسطة التكنولوجيا والأسلحة المتطورة.

إسرائيل تدرك أن "حماس" تعظّم من قدراتها في قطاع غزة، وأنه لا يمكن غض الطرف عنها وعن باقي فصائل المقاومة التي تتزود بالسلاح وغيره من الإمكانات المتاحة، الأمر الذي تراه دولة الاحتلال فرصة لتحجيم دور المقاومة، وفي ذات الوقت فرصة لاختبار القدرات العسكرية الإسرائيلية.

إسرائيل في نظر الكثيرين تعتبر دولة رفاه، وهي تقوم على الأمن وعلى اختلاق نظرية الهاجس الأمني الذي تصدّره على أنه "بعبع" يهددها من كل حدب وصوب، ولأن إسرائيل عملت حزاماً سلمياً جنبها حروباً مع جيرانها العرب، فإنها ترى الفلسطينيين الحلقة الأضعف وكيس الملاكمة الذي تتدرب عليه.

وتحتاج إسرائيل إلى قطاع غزة والضفة الغربية مسرحاً لعدواناتها، حتى تظل تشحن جنودها بالنفير العسكري، وحتى تبقي على تفوقها في هذا الميدان، خصوصاً وأن عقيدة العسكري الإسرائيلي غير قوية وهي بحاجة إلى من يقلقها حتى تظل على أهبة الاستعداد والجاهزية القتالية.

وعلى كل حال، يبقى القول: إن نتنياهو وإن كان متخوفاً من خطورة توسيع الهبة الشعبية الفلسطينية إلى كافة الأراضي الفلسطينية، فإنه سيعمل جاهداً على وأدها، وتحويل الفعل المقاومي الشعبي إلى حرب متواصلة مع قطاع غزة عنوانها الرد على صواريخ المقاومة.

فلسطينياً ينبغي في هذا الوقت ضبط النفس وتفويت الفرصة على نتنياهو لضرب المصالحة الداخلية، وبذل الجهد الجمعي في التصدي للعدوان الإسرائيلي، ذلك أن نجاح المصالحة يتطلب التوحد في مواجهة الاحتلال وإطلاق هبة جماهيرية سلمية صاحبة نفس طويل، من شأنها أن تفشل المخططات الصهيونية.

إن الهبة الجماهيرية أفضل خيار لحماية الشعب الفلسطيني ومكتسباته الوطنية، وبدون بوصلة هادية للمشروع الوطني الفلسطيني، فإن نتنياهو سيتمكن من تمرير مخططاته الصهيونية، الأمر الذي يدفعنا للنظر في وسائلنا وإمكاناتنا والتعامل مع المرحلة بروح المسؤولية والوطنية العالية.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]