العلاقات المبنية على اساس التبادلية، هات وخُذ فقط، مُنهِكة للطرفين وهي عرضة للتلاشي والانقطاع إثرَ "خلل" في "الميزان التبادلي" بين الاطراف وهذا أمر وارد بالحسبان لأننا قد نمّر في حياتنا بأزمات ومشاكل تمسّ بقدرتنا على العطاء وبالوقت الُمتاح لنا لتعزيز علاقاتنا مع الآخرين

لقد شَكَت احدى السيدات, وهي في سنوات الاربعين من عمرها, فائقة الجمال وتتمتع بثقافة عالية وتعمل في وظيفة محترمة ونشأت في كنف عائلة ميسورة انها لا تحظى بمعاملة حسنة واهتمام من قِبل صديقاتها وقريناتها وحتى من قريباتها مع انها لا تُفوّت فرصة لإبداء الاهتمام بهن وبمساعدتهن في كل امر يتوجهن به اليها, وقد اقسمت لي بانها تتصل بهن دائما لتباركهن في اعياد ميلادهن وزواجهن وتخرّج ابنائهن من الجامعة وتواسيهن في محنتهن وكربهن, ولكنها ولشدة دهشتها لا تتلقّى منهن معاملة مماثلة, فلا واحده منهن تتصل بها مهنئةً او مواسية لا بالفرح ولا بالحزن. ان ما سردته تلك السيدة جعلني أتضامن معها على الفور ولكن في نفس الوقت لم اقوَ على كبت فضولي وحب استطلاعي لفهم حيثيات هذه الحالة الغريبة التي تبدو لأوّل وهلة قضية انسانة معطاءة "تُغدق" على صديقاتها بدون حساب, ولكنهن يُدِرن لها ظهورهن من دون سبب ظاهر. بعد مساءلة وجدال طويل ومُضنٍ مع من حولي حول قضية السيدة اياها وصلت الى نتيجة بأن الأكثرية منهن تمِلن الى التضامن مع السيدة والى استنكار تصرّف "الصديقات" الجاحدات وناكرات الجميل والمتنصّلات من مسؤولياتهن تجاه السيدة, لكني, وكعادتي, لم اسارع للموافقة على ما يدّعون.

ان التبادلية في العطاء على انواعه بين افراد المجتمع هي عنصر هام للحفاظ على ديمومة العلاقات ولكن هنالك الكثير من العلاقات التي تدوم طويلا مع ان عامل العطاء المتبادَل غيرمتواجد وهناك علاقات لا تدوم طويلا مع وجود التبادلية. اذا التبادلية هي شرط هام لكن غير مُلزِم لاستدامة العلاقة بين الناس. لكي نُثبت ان هناك "جحود" من قِبل الصديقات علينا ان نتأكّد من أمرين هامين- الاول هو مصداقية الاهتمام التي ابدته وتبديه تلك السيدة, التي يبدو انها لا تعاني من اي نقص في هذه الحياة, مقارنة بصديقاتها. هل هو شعور صادق وصادر من محبة واهتمام ام نابع من رغبتها بالشعور بالفوقية والتفوّق عليهن؟ او من وجود فائض من الوقت لديها ولا شُغل لها غير الاتصال بصديقاتها والثرثرة معهن معتبرة ذلك "اهتماما" بأخبارهن؟ الامر الثاني, علينا التأكّد ان هنالك تكافؤ في المواصفات الشخصية والاجتماعية بين السيدة وصديقاتها- هل هن متزوجات؟ هل هن سعيدات في حياتهن؟ هل تُعانين من مرض عضال او ازمة نفسية او اقتصادية؟ هل يوجد لديهن متسع من الوقت كما يوجد لديها؟ من الواضح اننا لا ندري الكثير عن اصدقائنا ومقرّبينا ولذا فلن نكون منصفين اذا حكمنا عليهم بالجفاء والنفور لمجرّد انهم لا يعاملوننا كيفما نعاملهم.

من الصعب بل من المستحيل ان نتوخّى التبادلية والتكافؤ في العطاء بين الاصدقاء اذا لم تكن هناك مواصفات شخصية متكافئة وظاهرة للعيان بينهم, فقد تكون قيمة الهدية التي دفعتَ ثمنها مائة دولار لصديق موسر لا تعني شيئا لديه لأن حالته الاقتصادية احسن من حالتك بعشرة أضعاف, وقد تكون الدقائق المعدودة التي خصّصتها لمكالمة صديق في ضيق تساوي دهرا كاملا بالنسبة اليه. اذا ما هو "ثمين" في نظرنا قد يكون "باخسا" في نظر الآخرين وبالعكس, ومهاتفاتنا المتكررة لأصدقائنا ومعارفنا, المهنّئة منها ام المواسية, قد تُفسّر كثرثرة او "كثر غلبة" او "شُغُل مفلّسين" من قبلهم, وهذا أمر يضر في العلاقة اكثر ما ينفع. اذا اغدقنا على اصدقائنا في كل مناسبة وقمنا بمكالمتهم وتهنئتهم وارسال باقات الزهور وبطاقات المعايدة اليهم في كل مناسبة فانهم سيعتادون بدورهم على هذا العطاء ويفقدون الشعور بأهميته.

لقد تعرّفت على كثير من الناس الذين لا تهمّهم التبادلية مع من يحيط بهم من اصدقاء ومعارف فهم دائما من يدفع عن الآخرين في المقصف والمطعم وسيارة الاجرة وتذاكر الدخول للملاعب ودور السينما وهم يفعلون ذلك "عن حب وعن رضا" ولا يتوخون مقابلا ممن "يغدقون" عليهم وعلى ما يبدو ان هذا التصرّف يجلب لهم الشعور بالاستعلاء على غيرهم. وأعرف آخرين ممّن يعتقدون بأن "الاستثمار" في الاصدقاء والمعارف قد يُعطي نتائج للمدى البعيد, لذا فلا ضير بألاّ يتلقّوا "مردودا" فوريا لكرمهم الفياض ولمعاملتهم الحسنة.

لقد سألني احدهم لماذا قام فلان بدعوة أخي الى حفلة عيد ميلاده ولم يقم بدعوتي؟ لماذا قام بزيارة فلان من الناس عندما اعياه المرض ولكنه توانى عن زيارتي؟ لماذا تكلّف بنشر تهنئة فلان على صفحات الجرائد لتخرّج ابنه من الجامعة اما انا فقد تجاهلني؟ لماذا يتردد على فلان من الناس أمّا انا فلم تطأ قدماه بيتي منذ سنين؟ على ما يبدو ان الإجابة عن هذا السؤال صعبة جدا وقد يكون مصدر المعاملة الحسنه التي يحظى بها الاخرون من قبل "اصدقائنا" هو تحقيق اهداف غير مفهومة لنا وغير مرئية, لذا علينا ان نكفّ عن المقارنة ونخفّض من مستوى توقّعاتنا لان حجم خيبة الأمل كحجم التوقّعات. ان اهم شيء في الموضوع هو ألاّ يساورنا شك بشخصِنا وبمحبة الناس لنا وبثقتنا بأنفسنا.

ان سألتم رايي في الموضوع ان العلاقات المبنية على اساس التبادلية مُنهِكة للطرفين وهي عرضة للتلاشي وللانقطاع إثرَ "خلل" في "الميزان التبادلي" بين الاطراف وهذا أمر وارد بالحسبان لأننا قد نمّر في حياتنا بأزمات ومشاكل تمسّ بقدرتنا على العطاء وبالوقت الُمتاح لنا لتعزيز علاقاتنا مع الآخرين. هنالك عوامل اخرى تجمع البشر مع بعضهم البعض المصنّفة مع العواطف والأحاسيس اكثر من كونها مصنّفة مع العقل والمنطق. اليس كذلك؟

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]