لدبلوماسية ضرورات وخيارات، وأيضاً حسابات تؤدي أحيانا إلى قول أمور لا يستسيغها أغلب الناس بل قد يشعر الشعب بالغضب الشديد منها، وهذا أمر مفروغ منه. وفي حالتنا الفلسطينية تعيش البلاد على صدى أزمة إقليمية صعبة تحتم علينا التروي وعدم التسرع بالدخول إلى انتفاضة جديدة لا تحمد عقباها، بل لا بد من قراءة الواقع بحذر واتخاذ الخطوات بحكمة وترو وألا نأخذ بعين الاعتبار فقط العوامل الداخلية المتشابكة بل أن ننتبه بشكل خاص إلى ارتدادات الحمم البركانية المتطايرة من سورية والعراق مرورا بليبيا ومصر، وإلى مسار ما يمكن اعتباره "تدعيش" الثورات العربية التي حولت العالم العربي إلى عالم موحل في مواجهة مأساوية بين أنظمة إجرامية وعصابات شيطانية حيث لم يعد هناك خيار يمكن التعاطف معه، وتبدلت صور ميدان التحرير الرائعة بصور قتل المئات وتصفيتهم بأبشع الصور وأكثرها إثارة للاشمئزاز، وفي هذا السياق تسوق إسرائيل نفسها بوصفها البقعة العاقلة الوحيدة في هذا الشرق المجنون.

وسط هذا الواقع الذي يذكر بشكل آو آخر بالأجواء التي أعقبت هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، ستكون الأجواء ملائمة لإسرائيل لنقل المواجهة مع الفلسطينيين من المستوى الدبلوماسي السياسي، إلى ساحة مواجهة عنيفة ودموية. فالعالم الذي يرى "داعش" تذبح وتكبر وتصفي الأسرى وتصلب الرجال وتسحل المعارضين، لن يرتعد على الأغلب عندما يرى دولة تبحث عن ثلاثة "فتية" لتنقذهم، ولن يتضامن بسهولة مع الفلسطينيين إذا ما قرروا مثلا ضرب المدن الإسرائيلية بالصواريخ، وسيتفهم كل ما تقوم به إسرائيل "للحفاظ" على مواطنيها "الأبرياء"، ولا بأس إن قتل بعض الفلسطينيين في الطريق، إذ من سيكترث لعشرة قتلى فلسطينيين في اليوم وقد اعتادت أذنـه على سماع أرقام 300 و400 قتيل وأكثر أحيانا في اليوم في سورية والعراق. وهذا ناهيك طبعا عن الملايين المشردة والكيماوي والبراميل المتفجرة... باختصار يمكن القول إن الليل الفحمي الذي يغطي الإقليم سيغشي النظر إلى فلسطين.

لا بد من أن نوضح هنا أيضاً أن إسرائيل تغيرت بنيويا في العقدين السابقين، وأصبحت أكثر يمينية وعنصرية وقبلية وتعمقت فيها قيم الفاشية، وهي عوامل أسهمت في تعميق عزلة إسرائيل الدولية، وهو ما يجعل إسرائيل ترى اليوم في "اختطاف" المستوطنين (أو اختفائهم، فلا أحد يعرف بالتأكيد) فرصة إستراتيجية لكسر عزلتها الدولية وفي ذات الوقت دحرجة مسؤولية التدهور نحو الفلسطينيين، وطبعا فرصة ذهبية لتصفية حماس وإفشال المصالحة الوطنية.

في هذا الواقع المتشابك يواجه الرئيس أبو مازن خيارات صعبة أحلاها مر.... وهو يؤمن بشكل كامل أنه بخياراته وتصريحاته إنما يسعى نحو تجنيب شعبه عدوانا مجنونا أولا، ويدافع عن خياره السياسي الدبلوماسي ثانيا.. لكن المشكلة في مفهوم الخيار الدبلوماسي المجتزأ، وفي حصره ببعض الخيارات التي هي خيار واسع ويفتح آفاقاً لأفعال وخطوات غير التي يحاولون حصرنا بها، والأهم أنها لا تتناقض مع خطوات أخرى غير عنفية.

لنقترح عليه بعضها (أو جزءاً منها):

أن يوقع طلبا للانضمام إلى معاهدة روما، اليوم وليس غدا.

أن يقوم الرئيس، وهو يرى هذه الهجمة المسعورة، بتوجيه خطاب مباشر لشعبه، من رام الله وبالتحديد من المقاطعة وأمام الجماهير، وذلك بدلا من مخاطبة الإسرائيليين عبر جريدة "هآرتس" (أو، إلى جانب ذلك، على الأقل!)...

أن يعلن أن الاستمرار في استباحة المدن سيعني من جهته إلغاء الاتفاقيات، وعلى رأسها التنسيق الأمني...

أن يوضح أنه قد فُهم خطأ حين قال إن التنسيق الأمني مقدس، لأن الشيء المقدس الوحيد هو الدم الفلسطيني..

وأن يعلن أن استمرار هذه الاستباحة تعني شلّ قدرته على تحقيق الدولة والسلام والأمان لأبناء شعبه، وأنه في حال استمرارها سيقوم بتسليم المفاتيح لأصغر شرطي مرور في البلد...

سيكون هذا بمثابة انتفاضة سياسية وليست عسكرية... فلا رصاص سيطلق ولا دم سينزف، وهو بالضبط ما يدافع عنه!!!
ليس حرب بنادق، بل سياسة بأفضل صورها!!

مقترح للخطاب:

أبناء وبنات شعبي
مرت سبع سنين من الأمن الكامل للإسرائيليين
نفذنا كل ما التزمنا به بحذافيره
حرسناهم
وأعطيناهم الأمن الذي أرادوه
ومنعنا الاعتداء عليهم من غير أن نفرق بين مستوطن مجرم وغيره
وحين دخل غلاة المستوطنين إلى قرانا للاعتداء على بيوتنا وانتهاك دور عبادتنا أعدناهم سالمين إلى مستوطناتهم التي بنوها أصلا على أرضنا المسروقة!
باسم السلام المنشود: قمعنا المظاهرات حين خرجت للتنديد بالعدوان على غزة
منعنا الشباب من الوصول إلى الحواجز والاحتكاك معهم
بل نسقنا معهم الاعتقالات في مدننا..
وكلكم تعرفون أننا حكمنا المدن في النهار وصالوا وجالوا فيها في عتمة الليل
لم نضايقهم ولم نطلق رصاصة واحدة حتى عندما دخلوا بيوتنا واعتقلوا أطفالنا
لم نترك فرصه لإثبات حسن سلوكنا إلا وقمنا بها
ولم نضيّع فرصة لإثبات حسن النوايا إلا وأمسكنا بها
سبع سنين آمنة مطمئنة أعطيناهم..

فماذا أعطونا بالمقابل؟
سبع سنين عجاف
مقابل الأمن ..اعطونا مزيدا من المستوطنات
وبدل نصف مليون مستوطن صحونا ونحن نقارب ثلاثة أرباع المليون
وبدل تحضير شعبهم للسلام القادم... رسخوا فيهم أن العرب مجرمون بطبعهم
وبدل أن يجمدوا الاستيطان صحونا مع تخريجة عبقرية للقاضي إدموند ليفي تخبرنا أن الاستيطان ليس انتهاكا للقانون الدولي بل هو عمل شرعي وشرعي جدا....
ومع الطمأنينة التي نزلت على المستوطنين المحروسين من جيشهم في مناطق c و b صرنا نخاف السير في شوارعنا، ونحاول إيجاد طرق التفافية للطرق الالتفافية علنا نلتف على مضايقات "أسياد البلاد" الجدد.
ومقابل أمنهم أهدونا عصابة "تدفيع الثمن"، التي أتحفتنا بشعارات الموت للعرب وبحرق الجوامع والاعتداء على الكنائس، ومحاولات إحراق البيوت على ساكنيها...
أما "شبيبة التلال"، من "أطفال" و"فتية" المستوطنين والذين تتراوح اعمارهم بين الخامسة عشرة والثامنة عشرة، فاجتاحوا ما تبقى لنا من أراض، ووضعوا فوق كل تلة فارغة كرفانا وهوائية، ثم أسموها بؤراً استيطانية، وصارت بحسبهم محل خلاف أما "كتل الاستيطان الكبرى" فقد صارت بقدرة قادر محل إجماع... سبحان مغير الأحوال
ثم أكملوا ووضعونا خلف الجدار كي لا يرونا وزرعوا الشوارع الملتفة في الضفة الغربية بإشارات ولافتات توضح المناطق التي يسمح للفلسطيني سلوكها والتي يمنع عليه استخدامها....
هل تذكرون شارع 443، هل تذكرون أن إيهود باراك علل في حينه في بداية الثمانينيات مصادرة الأراضي التابعة لقريتي خربثا وبيت عور لشق الشارع بأن هذا الشارع يأتي لتحسين أحوالهما... لكن المحكمة قبلت تعليله هذا لأنها اعتبرت أن من حق القوة المسيطرة القيام ببعض الأعمال التي تحسن حياة السكان حتى لو لم يحظ الأمر بقبولهم...هل تعلمون أن هذا الشارع ممنوع عليهم الآن وهو مسموح فقط لاستخدام المستوطنين... وبالمناسبة، ورغم وجود قرار محكمة عدل عليا بالسماح لسكان القرى المحيطة باستخدامه فقد وجد المحتل صيغا خلاقة للالتفاف على هذا.
أما الحواجز فما زالت مكانها ...لكن تم تسليمها لشركات خاصة كي يتفرغ الجيش لمهامه الأخرى الداخلية والخارجية، وبالذات الإقليمية!
وبعد أن ضمنوا صمتنا تفرغوا لإنهاء مهامهم الداخلية، فمرروا القوانين التي تمنع علينا إقامة عائلات طبيعية بأن جمدوا طلبات لمّ الشمل، ثم مرروا القوانين التي تجيز سحب الجنسية في حالات معينة، وأقروا حق القرى اليهودية بتحديد لجان للقبول لترفض طبعا بيع بيوت للعرب، واستشرسوا لتمرير مخطط برافر الذي يجيز مصادرة مئات آلاف الدونمات في النقب.
وزيادة على كل هذا وضعوا مسودات قانون: إسرائيل الدولة القومية للشعب اليهودي... ثم طالبونا أن نعترف بأن إسرائيل دولة يهودية... وإلا، لوحوا بإصبعهم مهددين!
ثم قالوا: إن لم تعترفوا فأنتم لا تقصدون السلام حقاً حين تتحدثون عن السلام!
"نحن اعترفنا بأن فلسطين دولة قومية للشعب الفلسطيني"، أوضح نتنياهو. وأضاف: اعترفنا رغم الصعوبة الكبرى في أن نتنازل عن أرض أجدادنا... وعلى فكرة لم يكن يقصد حيفا، بل بيت إيل ونابلس..
بعد سبع سنين من الأمن والسلام صحونا على رئيس الحكومة الإسرائيلي يلوح بإصبعه في وجهنا: يا ناكري الجميل لقد اقتطعنا رام الله من لحمنا المقدس وأعطيناكم إياها... وأنتم تريدون فقط المزيد... يا لطمعكم وجشعكم...
هكذا كان: سبع سنين من الألم والأمل، قضمنا حنقنا وسخطنا وعضضنا على أسناننا، قلنا نعطي فرصة، ربما ينجح الأمر،

أعطيناهم سبع سنين من الأمن
لكنهم سلمونا حكم الاعدام
للوطن والدولة
وهذا ما لا نقبل به

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
وأطلب من شرطي المرور الذي يقف هناك على مقربة من مفترق "بيت إيل" أن يأتي إلى هنا لينظم دخولنا في مسار الدبلوماسية الفاعلة!
وجلّ من لا يخطئ!

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]