ليس ما قالت النائبة حنين زعبي في مقابلتها لراديو حيفا أو الأسلوب الذي استخدمته هو الذي فجر هذه الحملة العنصرية الشعواء ضدها، فهل مثلاً لو قالت تلك الجمل بأسلوب أنعم للأذن الإسرائيلية كان الاعلام العبري المجند سيتعامل بشكل آخر مع الموضوع.

ما أثار زوبعة الحقد ونكأ هذا الورم العنصري الخبيث فاندفع منه قيح الكراهية والإقصاء، هو أن أقوال حنين زعبي واجهت في الصميم ومن دون أي تنازل أو تجميل الإجماع الصهيوني المتدثر بدفء إلإحساس الجماعي بالمأساة وبدور الضحية الذي يجمع المجتمع الإسرائيلي من أقصى اليمين والمستوطنين وحتى اليسار تحت شعار "عودة الأبناء"، وهذه جريمة كبرى لا تتسامح معها غرائز العنصرية الإسرائيلية عندما تشم رائحة الدم.

طبعًا لو قال الكلام ذاته وباللهجة ذاتها قيادي عربي آخر غير حنين زعبي، لما ثارت العاصفة على الأقل وربما ليس بالحجم ذاته، إذ أنه ومنذ مشاركتها في أسطول الحرية وشهادتها ضد جيش الاحتلال في اعتدائها على سفينة مرمرة، أصبحت حنين العدو الأكبر والأكثر استفزازا للصهيونية فكراً وممارسة وللمجتمع الاسرائيلي، ولم يعد التعامل معها بمقاييس عقلانية ولا يحكم عليها بما تقول وإنما بالغرائز الأكثر بدائية، والتي تتميز بها المجتمعات التي تتصرف كالقطيع وخاصة في الأزمات وتحت الضغط. والمجتمع الاسرائيليي يعتبر نفسه في أزمة مستمرة ويعطي نفسه شرعية التصرف القبلي أو كالقطيع، ويرقى بهذا الاستعمال البدائي إلى مراتب لم يسبقه إليها أحد في الجمع بين دور الضحية ودور الجلاد.


من يملك أكبر جيش في المنطقة وأعتى سلاح وأكبر ترسانة وسلاح نووي ويدوس جنده إسبرطيو التربية والأخلاق يوميًا أبسط حقوق الانسان الفلسطيني يتباكون على مصير ثلاثة فتية من أبناء المستوطنين. ليس هذا هو أفظع ما في الموضوع وإنما أنهم يريدون من حنين أن تبكي معهم وأن تحس مع أمهات الفتية المختطفين، وإلا فكما قالت المذيعة الوقحة رينا متسليح من القناة الثانية بكل صلف تكون حنين غير انسانية.
يريدون من الضحية أن تعتذر للجلاد عن كونه جلادًا منذ غولدا مئير التي لامت العرب على أنهم يضطرون الجنود الإسرائيليين إلى قتلهم "يطلقون النار ويبكون" أسطورة الصهيوني المتحضر الذي يضطر إلى قتل السكان الأصلانيين "المتوحشين"، التي فضحتها وعرتها حنين زعبي في رفضها اعتبار صفة الوحشية (الإرهاب) ملازمة لمقاومة الاحتلال حتى لو رفضنا أو لم نتفق مع بعض أساليبها.

الحقيقة أن كل هذه الزوبعة ليست فقط تنفيسًا عنصريًا لمجتمع يعيش منذ عشرة أيام حالة من التجييش الجماعي والاحتقان وجد له الضحية المناوبة لـ"يفش غله" بها، وإنما هو أيضا وسيلة لكي يستمر هذا المجتمع في دفن رأسه في الرمل، ولكي لا يسأل قيادته إلى أين تجره وتجر المنطقة. إنها نوع من التنويم الجماعي حتى لا يُرى إضراب الأسرى الفلسطينيين عن الطعام الذي دخل يومه الستين وخطر الموت يتهدد العشرات منهم. إنها نوع من تسميك الجلد وتخدير الحواس حتى لا ترتفع الأصوات ضد العقوبات الجماعية المفروضة على مناطق كبيرة في الضفة والقطاع من دون أي علاقة بعملية الاختطاف أو البحث عن المختطفين، ولكي تستمر حكومة نتانياهو العنصرية في تمرير القوانين الفاشية بلا حسيب أو رقيب.

زوبعة "حنين زعبي" هي زوبعة في فنجان الأحداث المتسارعة في المنطقة ستنقشع عما قريب ولن يحظى العنصريون بمآربهم في نزع الحصانة عنها وتقديمها للمحكمة، وما سيبقى أمام المجتمع الإسرائيلي هو مواجهة واقعه الصعب الذي ينضح بالعنصرية المستشرية وبالاستيطان الكولنيالي الذي يتفشى في جسمه مثل السرطان أو الهروب منه كل مرة باختيار ضحية مناوبة جديدة. لكن الموضوع أخطر من ذلك بكثير، والوضع مرشح للتفجير ولإندلاع انتفاضة شعبية حقيقية من قبل شعب يرزح تحت أغلال الاحتلال والاستيطان من جهة، وانسداد أي أفق سياسي لتسوية سياسية من جهة أخرى. في هذا الوضع المعقد والمركب والخطير، لا تستطيع المؤسسة الصهيونية الاستمرار في اللعب باختيار الضحية المناوبة أو باستغلال حادثة إختفاء الشباب المستوطنين الثلاثة للاستمرار في ترسيخ الاحتلال والاستيطان، وتقويض أي إمكانية للتسوية.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]