من المفيد التذكير بالمقولة التاريخية القائلة: أن الكلمة كالطلقة، إن خرجت لا تعود. ولكل كلمة تداعياتها ودلالاتها الايجابية والسلبية في كل المستويات بما في ذلك المستويات الدنيا في المجتمعات المختلفة. ولكن تتعاظم اهمية الكلمة كلما نطق بها مسؤول ما في اي موقع قيادي، ويتضاعف وزن وقيمة ودلالة الكلمة كلما إرتقى الناطق بها في المسؤولية السياسية.
عطفا على ما ورد، كان للرئيس ابو مازن كلمة في الاجتماع الدوري ال(41) لمجلس وزراء خارجية دول منظمة التعاون الاسلامي في جدة نهاية الاسبوع الماضي، والتي جاءت في اعقاب إعلان إسرائيل عن اختفاء ثلاثة من مستعمريها في محيط مستعمرة "غوش عتصيون"، وتضمن خطاب عباس كلمات متنافرة مع الوعي الجمعي الفلسطيني، ومع ما تجذر في الخطاب السياسي العام، حين أكد على : التنسيق الامني، والعمل على إعادة المختطفين إلى ذويهم، مع انهم يستوطنوا مع اقرانهم في غوش عتصيون على الارض الفلسطينية المحتلة عام 1967. مما أثار ردود فعل واسعة في اوساط قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني، وليس فقط في اوساط المزاودين والمنافقين من قادة وممثلي حركة حماس ومن يدور في دائرتهم.
خطاب الرئيس محمود عباس، كان صادما للوعي الفلسطيني، ومتناقضا مع السائد التقليدي، وحاملا مشعل الكي للوعي، بهدف نشر وعي آخر، وخطاب راق، بعيد عن الصخب والضجيج الشعاراتي الشعبوي، الذي اعتدناه. هادفا اولا إلى الابتعاد عن الخطاب التقليدي؛ ثانيا رافضا التساوق مع الخطاب والممارسة الصهيونية اللانسانية؛ ثالثا متساميا ومحلقا نحو خطاب إنساني، يعتمد خطاب وطني متناغم مع حقوق الانسان؛ رابعا ومؤكدا على الحقوق الوطنية بارقى الصيغ السياسية؛ خامسا واضعا حكومة اقطاب اليمين المتطرف الاسرائيليية وحملتهم الارهابية المنفلتة من عقالها في الزاوية، التي يستحقونها.
لم يغب عن الرئيس الثمانيني، والذي كان لصوته مع انطلاقة حركة فتح، الدور المرجح لاعتماد اسلوب الكفاح المسلح في مواجهة دولة التطهير العرقي الاسرائيلية، لم يغب للحظة عن وعيه وذاكرته، ان الوعي المجتمعي الفلسطيني والعربي مجبول بنمط الخطاب السياسي الصقري.ويعلم علم اليقين بترسخ الصبغة الشعاراتية والاقصوية في الرد على اي خطابك4 سياسي إسرائيلي او غربي او حتى فيما بين القوى السياسية المتناقضة واك4لمتباينة فكريا وسياسيا. مع ذلك لم يخشى طرح خطابه ومنطقه المختلف، ليس تهاونا او مملاءة لاسرائيل او خشية على حياته، وانما حرصا اولا وثانيا وعاشرا على مصير ومستقبل الشعب العربي الفلسطيني؛ وحماية ابنائه من ارهاب الدولة الاسرائيلية المنظم، وبالمقابل فضح وتعرية تلك السياسات والانتهاكات الاسرائيلية الاجرامية.
يخطىء من يعتقد من الفلسطينيين، ان مواجهة إسرائيل تكون بالجعجعة والخطاب الشعبوي الفارغ من المضامين. يستفزك الخطاب (عباس) حين تسمعه، ويتبرم المرء غيظا مع رؤية المعادلة القائمة، إنفلات وحشي اسرائيلي ضد ابناء الشعب العربي الفلسطيني، مترافقا مع سقوط الشهداء كل يوم، مقترنة باستباحت المدن والقرى والخرب المحتلة عام 1967، وانتهاك لابسط معايير القانون الدولي. لكن عندما يدقق المرء في المآل السياسي للخطاب العباسي القديم الجديد، يلحظ انه خطاب عقلاني ومسؤول ومشبع بالمعايير الانسانية. لان ابو مازن منذ كان مرشحا للرئاسة، لم يغير برنامجه السياسي، ولم يتناقض مع ما طرح، مع انه الاكثر تمسكا بالثوابت الوطنية، وهذا ليس دفاعا عن الرئيس عباس، انما انصافا له وللحقيقة. وبالتالي التطاول على رئيس منظمة التحرير من قبل العديد من الوان الطيف السياسي وخاصة قيادات حماس، الذين وقعوا اتفاقية هدنة مذلة عام 2012 برعاية الرئيس المعزول مرسي، مرفوض، ومعيب، الدفاع عن المشروع الوطني لا يكون بالضجيج والصراخ بل بالعمل المسؤول. ويا حبذا لو نستحضر مقولة الرئيس الاميركي وودر ولسون، التي قال في: في الصراع والحوار مع الاعداء والخصوم .. إخفض صوتك .. ولكن احمل عصى غليظة! وابو مازن يحمل عصا غليظة في مواجهة الارهاب الاسرائيلي، لا يدرك قوتها وثقلها سوى الرأس الاسرائيلية المتطرفة، لانها تعمل من اجل دفع القادة الفلسطينين لاستخدام خطاب يتماها مع توجهاتهم وسياساتهم العدوانية لتبرير جرائمهم..
مع ذلك يتمنى المرء على الرئيس عباس، تدوير زوايا في خطابه السياسي بحيث يأت بعيدا عن اي قراءة غير دقيقة لمحتواه، وبما ينسجم مع رؤيته السياسية، وحتى لا يسمح للمنافقين التطاول على شخصه ومكانته وبرنامجه الوطني.
[email protected]
أضف تعليق