انتخبت مصرُ عبد الفتاح السيسي رئيساً. فاز الرجلُ على منافسه حمدين صباحي بصورة كاسحة تحتملُ الانتقاد لكنها لا تحتملُ التشكيك على ما فهمنا من صباحي نفسه. أُسدل الستار على استحقاق الرئاسيات لفتحه مجدداً على استحقاق التشريعيات، وفي ذلك سيسيل حبرٌ كثير، وسيكثرُ ضجيج الحناجر على ما سئمنا في الأشهر الأخيرة.
انتخبت مصر عبد الفتاح السيسي رئيساً. أضحت مصرُ بذلك، ووفق الخطاب الذي صمّ آذاننا، بيد «ثورة 30 يونيو». تخلّص البلدُ نهائياً من سطوة الإخوان، و»نفض» عنه غبار فترة رئاسة محمد مرسي. قيل إن المصريين أعادوا وفق السياق الذي انفجر في «30 يونيو» الروح المصرية إلى البلد بعد حقبة «طارئة» غريبة عن طباع البلد، راجت فيها خطب التخوين والتكفير وانتعشت بها الفتاوى، وانعدم فيها الأمن والاستقرار.
لكن غياب الإخوان عن الحكم كما عن المعارضة (بحكم اعتبارهم تنظيماً ارهابياً)، قد يحرمُ نظام الحكم من نقيضٍ يبررُ ديمومته ومعنى وجوده. ولئن كانت مكافحة الإرهاب ناموساً يفسّر ضرورات الدولة القوية وديناميات الحزم فيها، فإن التناقض مع الإرهاب (فقط) كظاهرة عالمية، يحوّل الإرهاب في مصر إلى حدث عادي، شأنه في ليبيا وتونس والجزائر واليمن... الخ، وينزعُ عن الحالة المصرية صفةَ الاستثناء الذي يُقابَلُ بالاستثناء.
يتحوّلُ الإخوان في مصر السيسي إلى تفصيل أمني يجري التعامل معه. فـ «لن يكون هناك وجود للجماعة في عهدي» على ما أعلن الرجل قبل انتخابه، فيما تتولى الأجهزة القضائية تأمين السقوف الشرعية الضرورية لتطهير مصر من فلولهم. لكن الضربة، ربما القاضية، التي تلقاها الإخوان في مصر، والتي تداعت على نظرائهم في تونس واليمن وليبيا مباشرة، وعلى تيارات الإسلام السياسي في المنطقة بشكل غير مباشر، لم تقنع القاهرة بجدارة ما حققته، وهي ما برحت تتصرف، على ما يعكس الإعلام على الأقل، وكأن «الذئب» الإخواني يقف خلف الباب متربصاً للانقضاض على فريسته.
لا نملكُ لتقييم الحدث المصري إلا ما يُفرج عنه الإعلام في مصر. والحقيقة أن ذلك الإعلام أرسل بشكل يومي اشارات ملتبسة حرمت المراقب من رصدٍ شفاف للمزاج المصري العام. بالغ الإعلام في تقديس العهد الجديد بشكل لا يتناسب مع خبرة وعراقة الإعلام في مصر. كدنا نعتبر أن في ذلك الأداء من يريدُ محاصرة ذلك العهد وإغراقه. تهاون ذلك الإعلام في احترام عقول الناس، وتعامل معهم كحالة قيد التدجين. بدا لنا أن اجتماع الإعلاميين على التبرّم من اوضاع البلد يوماً، كما في تعنيف الناس لعدم اقبالهم على الاقتراع يوماً آخر، كما في الإجماع في اليوم التالي على اقبالهم، ما يشكك ليس في صدقيته فقط، بل في قدرته على الحفاظ على لحظة «30 يونيو».
قد لا نقترب ممن كتب في مصر معتبراً أن الإعلام ربما تآمر، من حيث يدري أو لا يدري، على عبد الفتاح السيسي. لكن الأداء البليد الحالي يطرحُ أسئلة حول استمرار المتلقي المصري في هضم منتجات أبوية تحاضر في الناس باستعلاء وتزعم امتلاك الحقيقة وتحتكر سيف التفريق بين ما هو حقٌّ وما هو باطل. خرج الناس في «30 يونيو» بعد أن استفزهم اعلام راج أيام رئاسة محمد مرسي فرأوا في حراكهم ردّاً على أخطارَ ودفاعاً عن قيم. فيما تولى اعلام العهد الجديد قتل أي حافز ونفي أي سبب لحراك آخر، حتى من خلال الصناديق.
من المحتمل أن ظروف المعركة ضد الإخوان غيّبت الشفافية التي تعبّر عنها بيانات الحكومة وبلاغات مؤسساتها. بات التعرف على مصر يمرّ من خلال وجبات الإعلام. لا نتعرف على المزاج الرسمي إلا من خلال رسائل «المقربين»، وليس من خلال المسؤولين. ولا نعرفُ توجّهات مصر الداخلية، كما تلك الخاصة بالأمن القومي والسياسة الخارجية، إلا من خلال المحللين والخبراء الاستراتيجيين، الذين يفحمون «العباد» بالعبارة السحرية المغرورة : «أملك معلومات تقول...».
في ما اضطلع به الإعلام المصري من دور لا شأن له به ولا قدرة له على لعبه بشكل ناجح، تروجُ تقارير وتنشطُ تصريحات وتنتعشُ سيناريوات تبيحُ التشكيك في الحدث المصري برمته. تنتمي منابرُ المشككين، هذه المرة، إلى تيار التغيير المؤيد لحراك «30 يونيو»، بحيث ينال التشكيك مما اعتبر حقيقة مطلقة منذ انطلاق «تمرد». في دوامة التشكيك تُرمى حكايات لا تبدأ بظروف الانتفاضة ضد الإخوان ولا تنتهي بظروف الانتخابات (بالسيسي رئيساً ناجحاً وبصباحي خصماً ودوداً). وفي ورشة التشكيك تلك يظهرُ الحدث المصري غامضاً تعوزه مفاتيح ورموز باطنية لفك أسراره. هناك من تحدثَ عن تيارات تعملُ وفق أجندة تحاصرُ السيسي بالإشارات والرسائل. منهم من تناول مناورات نفوذ تمارسها «مصر العميقة» على الرئيس الجديد. منهم من سلّط مجهراً على حركة رجال الأعمال للحفاظ على ديمومة مصالحم في ظل العهد الجديد. ومنهم من أثار نشاط رموز الحزب الوطني لامتطاء صهوة أُنزلوا عنها.
لكن بغضّ النظر عن قيمة تلك المزاعم وصدقيتها. فإن الثابتَ أن لبساً جدياً يتيح تلويث الفضاء المصري بضباب لا ينتهي. وما يجب الانتباه إليه هو أن الملفات التي تنتظرُ السيسي رئيساً، هي أصعب من ملف الإخوان الذي يسهل التعامل معه أمنياً وسياسياً وإعلامياً. فملفات السياسة والتنمية والاقتصاد والبطالة والاستثمار.. الخ، معقّدة يتدخلُ فيها أصحاب المصالح ولوبيات الخارج والداخل، وهي تحتاجُ إلى مقاربة حرفية تتعاملُ مع الحقائق والأرقام لا مع محاضرات الإعلاميين الذين تزدحمُ بهم الفضائيات ليل كل يوم.
في الطريق نحو الاستقرار والازدهار، تحتاجُ مصر إلى حيوية حقيقية تشرك في الجهد العام كل القوى التي تنبذُ العنف والإرهاب فكراً ومنهجاً وميولاً. تحتاجُ مصر إلى معارضة تعيدُ الحيوية إلى النقاش العام، وهي التي ظهرت أعراضها في أعداد الأوراق الانتخابية الباطلة. تحتاجُ مصر إلى الخروج من الفكرة الواحدة التي بشّر بها الإعلام المصري تحت يافطة «مكافحة الإرهاب». تحتاجُ مصر إلى شفافية تسحب من «الخبراء» و»المحللين» نميمة نفهم من خلالها مزاج الحاكم. فإذا ما كان الداعمون العرب لمصر صادقين في تعزيز قوة مصر، فإنهم وجميع العرب ينشدون نجاح التجربة المصرية، ففيها ترياق قد ينسحبُ نجاحه على كل المنطقة، كما أن في فشله أخطار تهدد كل المنطقة أيضاً.
* صحافي وكاتب لبناني
[email protected]
أضف تعليق