كنت قبل عدة أيام أقرأ في أحد المواقع السودانية وقد لفت انتباهي فيها خبر يقول إن وزارة الإعلام تعتزم انشاء محكمة يلجأ إليها الصحافبون الذين يواجهون ظروفا قاسية من السلطات، وكان الخبر في حد ذاته طريفا لأن المشكلات التي يواجهها الصحافيون عادة ما يكون سببها السلطات ذاتها، فكبف يستقيم أن هذه السلطات هي التي تنشىء المحاكم للاقتصاص من نفسها؟ كان الأجدر بهذه السلطات أن تعلن عن سياسة جديدة تراعي بها كيفية تحقيق حرية الصحافة.
من جانب آخر إذا نظرنا إلى المشهد الصحافي في السودان وجدنا أن الصحافيين يتعرضون لمضايقات لاداعي لها، إذ نشرت نيابة الجرائم الموجهة ضد الدولة في الأيام الأخيرة بيانا قالت فيه إنها استدعت عددا من الصحافيين للتحقيق معهم بسبب نشرهم أخبارا كاذبة، والأخبار الكاذبة هي التي تسرب أشياء لا يسمح بنشرها في الظروف العادية، وبالطبع فإن مثل هذه المواقف لا تمر دون مواقف مضادة، إذ تصف جماعة صحافيون لحقوق الإنسان في السودان هذه الاجراءات بأنها هجوم ممنهج تشنه مؤسسات الدولة على حرية الصحافة .وينظم الصحافيون في العادة وقفات احتجاجية أمام المجلس القومي للصحافة، غير أن سائر هذه المواقف لا تحدث تأثيرا إيجابيا في العلاقة بين الدولة والصحافيين.
ولا تقتصر مثل هذه المواقف على صحيفة بعينها بكونها تشمل سائر الصحف ما يؤكد أن العلاقة بين الدولة ووسائل الإعلام هي في حالة توتر كامل، وإذا كان الأمر كذلك فالسؤال المهم الذي ينشأ من مجمل هذه المواقف هو ما جدوى الإعلام إذا كانت الدولة تريد إحكام السيطرة عليه ولا تريد أن تسمع غير صوت واحد هو الذي يتوافق مع سياستها ؟
المسألة هنا لا تتعلق بالسودان وحده، فقد أصدرت منظمة «فريدوم هاوس» تقريرا أكدت فيه أن حرية الصحافة في تراجع مستمر في كثير من دول العالم، ومع ذلك فإن الدول العربية التي تحتل مراكز متأخرة بالمقارنة مع دول العالم الأخرى قد أخذ بعضها يتراجع عن المراكز السابقة التي لم تكن متقدمة أيضا ..
وتتركز الأنظار بصفة خاصة على مصر التي كانت تمتلك صحافة متقدمة يتابعها معظم القراء في العالم العربي، لكن التقييد الممارس على حرية الصحافة المصرية بدأ يؤثر بصورة سلبية على هذه الصحافة، ويرى كثير من أساتذة الإعلام والصحافة في مصر أن هذا الوضع لن يتغير إلا إذا أصبحت الصحافة مستقلة في حركتها عن نفوذ الدولة.
ولعل من الأحداث التي استرعت الانتباه أخيرا هي القبض على صحافيي قناة الجزيرة وعدم توفير العدالة الكاملة لهم عند تقديمهم إلى المحاكمة في تهم غير محددة، ذلك أن المحكمة التي تنظر في محاكمة هؤلاء الًصحافيين لا توجه اتهامات محددة لهم بل تكتفي باستدعائهم لجلسات محاكمة لا تكتمل، ثم تأمر بتأجيل المحاكمة حتى تستمر عملية الحبس دون مبرر مشروع.
وقد نشرت صحيفة «الغارديان» البريطانية خبرا يتصف بالغرابة والطرافة في محاكمة هؤلاء الصحافيين، إذ قالت إن المحكمة طلبت من المحامين المدافعين عنهم أن يدفعوا أكثر من مليون جنيه مصري حتى يسمح لهم بالاطلاع على حيثيات القضية، والسؤال المهم هو كيف تحاكم أي محكمة متهمين دون أن تطلعهم على طبيعة التهم التي يحاكمون من اجلها؟ ومن جانبهم وصف المتهمون وبينهم ثلاثة بريطانيون وأسترالي ومصريان، وصفوا هذه التهم بانها باطلة وملفقة .وقالت صحيفة «الغارديان» إن هؤلاء المتهمين حرموا من حقهم في الخروج من الاعتقال بواسطة الضمان، وليس هناك أي مبررمشروع يحول دون ذلك.
وقال أحد المتهمين وهو «بيتر كريست» الذي كان مراسلا سابقا لهيئة الإذاعة البريطانية، وصاحب خبرة تزيد عن ثلاثين عاما، قال لدى مخاطبته المحكمة إنه وصل إلى مصر قبل أسبوعين من اعتقاله ولا يتحدث اللغة العربية، فكيف توجه له اتهامات بأن له علاقة مع الإخوان المسلمين؟
وقال خمسة من الطلبة المتهمين إنه لا علاقة لهم بقناة الجزيرة، وهذا يبين أن استهداف قناة الجزيرة كان لأغراض لا علاقة لها بأحداث قام بها صحافيون ينتمون إليها.
ولا نريد أن نركز حديثنا في قضايا شخصية تتعلق بحرية الصحافة، ذلك أن مانهدف إليه هو أن نبين المستوى المتدني الذي اصبحت تعامل به السلطات الرسمية كل من يمتهن هذه المهنة ويخرج عن طوع السلطات .
وفي الواقع لا يستطيع الإنسان بسهولة أن يتحدث عن عملية اصلاح تساعد الصحافة على أداء دورها المعهود، ذلك أن المسألة في العالم العربي لا تقتصر على فقر في المعرفة بل تتجاوز ذلك إلى نظم الحكم التي لا تؤمن بحرية التعبير، وإذا نظرنا إلى معظم دول العالم الغربي المعروفة بحرية الرأي وجدنا أنه لا توجد بها مؤسسات تتحكم في وسائل الاتصال، وعلى الرغم من وجود وزارات الإعلام في العالم العربي فإننا نجد أن هذه الوزارات تعمل ضد الأهداف التي يتطلبها الإعلام الحر في مواجهتها لوسائل الإعلام، ولا نقول إن السبب في ذلك هو أن وسائل الإعلام هذه وسائل مارقة، ولكن السلطات تصنفها في بعض الأحيان كذلك، ونعرف أن ليس هدف وسائل الإعلام هو نقد أنظمة الحكم أو تحديد أنواعها إذ تعرف أن في البلدان المتقدمة أنواعا مختلفة من أنظمة الحكم، وهي لا تتدخل في تحديد مسارات الإعلام بكونها تدرك أن الإعلام الحر يساعد أنظمة الحكم على أداء دورها المنوط بها، إذن ما جدوى أن تضع أنظمة الحكم نفسها في مواقف الضد لوسائل الإعلام.
لكننا مع ذلك لا نتجاهل في كثير من الأحيان أن هناك وسائل صحافية لديها أغراض لا تتماشى مع الواقع الذي تطمح إليه الشعوب، سواء كان ذلك لأسباب طائفية أو عرقية أو أيديولوجية، وحتى إذا وجدت هذه الوسائل فإن الأجدى هو مواجهتها بأسلوب الحوار وليس بأسلوب القمع. وكما يقولون فإن الكلمات أجدى من أعمال العنف، وإذا كانت هناك وسيلة للحوار فيجب أن تحترم وتستغل من أجل أن يحقق الجميع أغراضهم، ذلك أن البديل هو العنف الذي يعاني العالم منه.
ويجب هنا ان تدرك السلطات في جميع بلاد العالم أن الصحافيين أفراد يقومون بواجبهم وعملهم المشروع دون أن تكون لكثير منهم أغراض خاصة، وبالتالي فإن توريط الصحافيين في مواقف سياسية هم بعيدون عنها لمجرد أنهم قاموا بالكتابة عن موضوع لا ترضى عنه السلطات، قد لا يكون عملا موفقا، وقد يؤدي إلى مواقف تفتقر إلى الأبعاد الإنسانية كما هو الشأن مع الصحافيين الذين تحدثنا عنهم من قبل.
* كاتب من السودان
[email protected]
أضف تعليق