قصة السودانية مريم إبراهيم مع قضاء السودان وحكومته وحكم الإعدام الذي صدر عليها مؤخراً يأخذنا إلى مهوى جديد من مهاوي الانحطاط العربي والإسلامي الذي نشهده في هذا العصر.
يصعب فعلاً مناقشة القصة والتطرق لها بأي منحى عقلاني أو هدوء أعصاب، فالنقاش العقلاني يصبح ترفاً طوباوياً لا علاقة له بالواقع عندما ينحط هذا الواقع إلى خلاصة هي خليط من الجنون وقصر النظر والتطرف والشعاراتية والتمسح السمج بالدين.
ملخص القصة، لمن لم يتابعها أو يسمع بها، أن دولة "المشروع الحضاري الإسلامي" التي بشر بها البشير وأصحابه السوادنيين منذ أكثر من ربع قرن قررت أن تمارس تحضرها وتسامحها ضد فتاة سودانية عاشت مع أمها المسيحية المنفصلة عن زوجها المسلم منذ أن كانت طفلة صغيرة.
كبرت الطفلة وبطبيعة الحال والحياة نشأت على دين والدتها، ثم تزوجت وأنجبت.
بعد كل تلك السنوات "اكتشفتها" الدولة العتيدة وألقت القبض عليها بأمر قضائي، وهي حامل بطفلها الثاني، بتهمة الارتداد عن الدين وهي تهمة جزاؤها القتل.
مريم عبدالله اعتقلت منذ أشهر بكونها حاملاً وبهدف تأخير حكم الإعدام بها لحين وضعها مولودها.
من ناحية أولية ومبدئية يجب القول إن علماء الدين الذين لديهم نظرة عميقة في الأصول الشرعية وأحكام المصالح العامة، قديماً وحديثاً، رفضوا حكم القتل بحق المرتد استنادا إلى أمرين: الأول هو أن الارتداد الذي نُص عليه حكم القتل كان في جوهره رفضا وتمردا على الدولة نفسها، أي أنه أقرب إلى الخيانة الوطنية بالمعنى الحديث وفي سياقات علاقات الأفراد بالدولة الحديثة.
والأمر الثاني هو تناقض الحكم بالقتل، والقائم على حديث آحاد، مع جوهر الحرية الدينية الذي جاءت به آيات قرآنية عديدة مثل "لا إكراه في الدين"، "ولكم دينكم ولي دين"، "أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين".
ما الذي يدفع حكومة، أو جماعة، أو فرداً، أو منظمة أن تأخذ الجانب المتشدد من أي حكم ديني وتترك الجانب اللين؟ ما هو الحق والتبرير المدني أو القانوني أو السياسي أو العقلي أو البراغماتي أو...، أو ...، أو ...، الذي ينفخ في قضية مثل هذه ويجعل منها مسألة دولية تحتشد وراءها مئات من منظمات حقوق الإنسان في العالم فضلاً عن الإعلام المعولم؟ من يتحمل كل التشوية الناتج عن هذه القضية والذي يلطخ صورة العرب والمسلمين في المعمورة؟ أليس نتائجها أسوأ ألف مرة من نتائج الرسوم الكرتونية الدنماركية التي ما كان لأحد أن يسمع بها لولا ردود الفعل المتوترة والصبيانية التي زايدت بها أطراف وحكومات مختلفة على بعضها البعض للظهور بمظهر المنافح عن الإسلام؟
تترك حكومة "المشروع الحضاري الإسلامي" في الخرطوم مئات بل ألوف المشكلات والمعضلات التي تواجه السودان والسودانيين لتتفرغ لمطاردة شابة في معتقداتها.
إذا لم تتحمل الدولة العتيدة ومنظروها الإسلامويون فتاة واحدة تتبع ما تراه من مُعتقد فكيف كانت تخادع الجنوبيين بأن السودان الكبير والموحد يتسع للمسلمين والمسيحيين وأتباع كل الأديان الأخرى؟
حكومة "المشروع الحضاري" هي التي تتحمل وزر انفصال جنوب السودان لأنها نظرت إليه كما تنظر اليوم إلى مريم عبدالله ولم يكن في استراتيجياتها تجاه الجنوب سوى الغصب والقتل والإجبار.
الجنوبيون الذين صوتوا في عشرينيات القرن الماضي طوعاً وخياراً لأن يكونوا ضمن سودان موحد وبقوا فيه عقودا طويلة، فاض بهم الكيل جراء تراكم سخافات تسييس الدين وتديين السياسة، بدءا بجعفر النميري الذي اعتقد أن الشريعة هي تقطيع أوصال البشر، وانتهاءً بالبشير الذي طبق الشريعة كما يفهمها عبر تقطيع أوصال السودان.
تترك حكومة "المشروع الحضاري" مآسي الفقر والجوع وارتفاع معدلات البطالة وتفاقم الأوضاع في دارفور، واتساع نطاق الفساد المالي في قلب السلطة وفي دوائر أتباعها، لتلاحق "المرتدة" مريم عبدالله، وتقيم عليها الحد، وتحكم عليها بالإعدام.
وعندما تثور ضمائر العالم، وفي مقدمتها ملايين الاعتراضات من قبل مسلمي العالم أنفسهم، فإن الخطاب الرسمي البارد لحكومة البشير يعيد إنتاج المعزوفة المكرورة والمملة حول المؤامرة الدولية على السودان وعلى الإسلام، وأن هناك قوى خفية حركت ملف مريم عبدالله للنيل من السودان. القوى الوحيدة التي تشتغل للنيل من السودان وتحطيم صورته السمحة والجميلة والتعايشية التي عُرف بها تاريخيا هي قوى الحكومة والإسلام السياسي.
فهذه القوى جلبت الدمار على السودان وأهله بما لا يُقارن بأي دمار آخر جلبته أي قوى خارجية.
قصة مريم إبراهيم مع حكومة "المشروع الحضاري" هي في الواقع قصة المرأة مع حركات الإسلام السياسي، ومع الحكومات التي تتمسح بالدين.
في كل مكان وصلت فيه قوى إسلاموية إلى الحكم فإن أول أهدافها كان قمع المرأة ومحاصرتها واعتبارها جذر كل الشرور.
تتحول الأفكار والشعارات المغرية والبرامج السياسية التي تتحدث عن العدالة الاجتماعية والتحرر من الاستعمار والمقاومة وكل الكلام الكبير الذي عهدناه في أدبيات هذه القوى إلى مناكفات بوليسية مع النساء.
فهذه حركة تمنع خروج النساء إلى الشواطئ، وهذه حكومة تمنعهن من سواقة السيارات أو حتى التنفس من دون محرم، وهذه أخرى تحظر عليهن التدخين، وهذه ثالثة تفرض عليهن نمطا خاصا من اللباس، وهكذا.
تتحالف هذه الحركات والحكومات والقوى مع تقاليد بالية وتستغل العفن المتراكم عوض أن تواجهه وتعمل على تنظيف مجتمعاتنا منه.
وفي كل معارك البطولة تلك ضد النساء، بكونهن أصل الشر، فإن الذكورة تظل في مرتبة عليا إذ هي لا تخطئ ورجالها أبرياء وأطهار من كل الرجس الذي يسم النساء.
في سودان "المشروع الحضاري" تتغاضى الدولة وقضاؤها وكثير من إسلامييها عن استفحال ذكورة عصابات الجنجويد المؤيدة للحكومة والتي تجسدت في الاغتصابات الجماعية لمئات من نساء القبائل الدارفورية.
فهنا ليس ثمة جرائم مخيفة تغضب وجه الخالق، ما يهم هو ردع المرتدة "مريم عبدالله".
إنها نفس قصة قتل الشرف التي تدين حكوماتنا ومجتمعاتنا من رأسها حتى أخمص أقدامها.
النساء وحدهن يُقتلن بسبب الشرف، أما الرجال الذين اغتصبوهن ونزعوا شرفهن فلا أحد يعلم عنهم شيئا، ولم يُقتل منهم أحد.
[email protected]
أضف تعليق