المراقبون الأوروبيون أعلنوا أنها حرة ونزيهة بالنظر إلى سلامة الإجراءات ومدى اتساقها مع القواعد القانونية.. والمراسلون الصحفيون مالوا إلى انتقادها والنيل من صدقيتها من متابعة الأجواء التى صاحبتها وحفلات الصراخ العام فى الفضائيات.
شهادات المراقبين تضفى شرعية الاعتراف الدولى على الرئيس المنتخب وتغطيات المراسلين تعكس خسارة جديدة فى معركة الصورة.
بحسب «ماريو ديفيد» رئيس بعثة الاتحاد الأوروبى فإن «قرار اللجنة العليا للانتخابات المفاجئ بمد التصويت ليوم ثالث لم يكن ضروريا وأضفى شكوكا على الانتخابات».
كلمة «الشكوك» فى سياق إشادة دولية معتبرة بنزاهة الانتخابات تعكس مدى كارثية القرار وأثره السلبى على صورة النظام السياسى الجديد.
بالنسبة للمراقبين فإن الخروقات الانتخابية التى رصدتها لا تؤثر على النتائج النهائية وبالنسبة للمراسلين فإن «الشكوك» هى صلب التغطية الإعلامية وإلا فإن تقاريرهم تفقد إثارتها وحيويتها.
التغطية بدت عدوانية فى بعضها لكن مادتها توافرت فى الأسواق السياسية.
بمعلومات مؤكدة فإن التفكير فى التمديد يرجع إلى «نظرية الأرقام» التى هيمنت على المخيلة العامة بعد ثورة (٣٠) يونيو.
وفق هذه النظرية فإن الشرعية تقاس بأحجام المتظاهرين والشعبية بأطوال طوابير الاقتراع.
هناك من أراد أن يرى العالم صورا أمامه تقنعه لمرة جديدة بأن ما جرى فى مصر إرادة شعبية.
للأرقام رسائلها بشرط أن تكون بنت تحديات لحظتها أما القياس عليها طوال الوقت فمأساة كبرى فى التفكير العام.
لم يكن ينتقص من شرعية الرئيس المنتخب أن تكون نسبة الإقبال على صناديق الاقتراع بحسب التصريحات الرسمية (٣٧٪) فى يومى الاقتراع المقررين قبل إضافة يوم ثالث، وهذه نسبة معتبرة فى أية ديمقراطية.
الوقوع فى أسر الأرقام ومقارناتها تفضى إلى مراهقة سياسية، فالنسبة التى حصدها الرئيس المنتخب يستحيل أن تتكرر مرة أخرى فى أية استحقاقات تالية دون أن يعنى ذلك حكما مسبقا على تجربته التى لم تبدأ بعد.
هناك سيولة سياسية تبحث عن صيغة شبه صلبة تستقر عليها تطمئن مواطنيها على مستقبلهم وأن الحياة يمكن أن تعود إلى طبيعتها والدولة إلى وظائفها أمنا واقتصادا وقد وجدوا فى رجل (٣) يوليو ما يضعون فيه ثقتهم.
أية قراءة للانتخابات وأرقامها خارج سياق مجتمعها وقلقه على مستقبله ومصيره تفتقد موضوعيتها وجديتها كأنها فقاقيع صابون سرعان ما تتبدد بأسرع مما يظن أصحابها.
شعور السلطة الانتقالية بالقلق وراء طلب الرقابة الدولية على الانتخابات، وهذا تطور جوهرى فى التجارب الانتخابية المصرية فيه إقرار بأنها لا تعنى انتقاصا من السيادة الوطنية وفيه إقرار آخر بأنه لا يمكن تجاهل العالم وشرعية اعترافه بأى نظام حكم قادم فى الانتقال مما هو غير طبيعى إلى ما هو طبيعى.
من حين إلى آخر تدعو أصوات فى الإعلام إلى عدم الالتفات إلى ما يقوله الآخرون فى العالم وتتبنى نظريات الترصد والتآمر دون أن تنظر إلى مواطن الخلل الداخلى وسبل ردم فجواتها.
هناك باليقين من يسعى لتقويض الدور المصرى فى محيطه وعالمه ويعمل على إرباكه فى صراعات داخلية لا تنتهى غير أنه لا أحد يعيش منعزلا والعالم حاضر فى العلاقات الاستراتيجية والاقتصادية والتجارية وفى أساليب الحياة ووسائل الاتصال الحديثة.
إنه العالم الذى نعيش فيه.
مرة نستفيد من موقعنا وتاريخنا فى تجنب السقوط الاقتصادى، فقد كان الدعم المالى الخليجى المفتوح استثمارا استراتيجيا فى دور الدولة العربية الأكبر.. وبذات الرهان لأسباب مختلفة تابع بقية العالم العربى الانتخابات الرئاسية بأدق تفاصيلها.
ومرة أخرى يفضى الموقع نفسه والصراع عليه إلى أزمات وجودية على الحدود وما خلفها. الأمن القومى منكشف وتهريب شحنات السلاح داخلها يهدد سلامتها بقسوة وقوى دولية وإقليمية عديدة داخلة فى الملف المسلح.
تحدى أية قوة إقليمية أو دولية تناهض مصالحك قضية وإنكار أهمية ما يجرى فى محيطك وعالمك قضية أخرى.
بصورة لا تقبل لبسا فإن الاعتراف الدولى بشرعية النظام الجديد ضرورية لتعظيم قدرته على إدارة مصالح مصر الاستراتيجية.
من المتوقع حلحلة الأزمات المصرية مع الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبى والقارة الأفريقية بعد تسلم الرئيس المنتخب سلطاته الدستورية وشهادات المراقبين الدوليين بنزاهة انتخابه تضفى لمسة أخلاقية على توجهات عملية تستند على لغة المصالح وحسابات القوة.
تصريحات الرئيس الأمريكى «باراك أوباما» المقتضبة التى تعهد فيها بـ«مواصلة الضغوط لتحقيق الإصلاحات التى يطالب بها المصريون» توحى باقتراب مختلف يمزج بين الاعتراف بشرعية الرئيس المنتخب وفق تقارير المراقبين الدوليين وممارسة الضغوط عليه بسند من التقارير الإعلامية.
بعبارة موحية بادر وزير الخارجية الأمريكى «جون كيرى» نظيره المصرى «نبيل فهمى» قائلا: «لا نتآمر عليكم».
النفى بمنطوقه تعبير دبلوماسى عن الرغبة فى فتح صفحة جديدة.
وفى زيارة أخرى للعاصمة الأمريكية سبقت الانتخابات الرئاسية قال أمين عام الجامعة العربية السابق «عمرو موسى» لمستشارة الأمن القومى «سوزان رايس»: «لا تتوقعوا أن تروا فى القاهرة رئيسا جديدا يحتذى مبارك الذى كان يمكن أن يخطره أوباما هاتفيا بطلبات فيستجيب لها على الفور».. فـ«مصر الآن تبنى دولة مؤسسات». العبارة الأخيرة وحدها هى التى تضمن سلامة التوجه الاستراتيجى المصرى.
الكلام لم يكن رسميا لكنه حاول رسم خطوط جديدة فى خرائط العلاقات المصرية الأمريكية سوف تخضع لاختبارات متعاقبة، وكل ما قد يحدث فى مصر مادة ضغط سياسى محتمل.
السياسة الخارجية لأى بلد وفق المفاهيم الحديثة باتت جزءا من العمل الداخلى.
وبحسب قدرة النظام الجديد على سد الثغرات وبناء توافقات وطنية واسعة تتزايد قدرته على مواجهة الضغوط عليه.
بلغة الأرقام فإن الرئيس المنتخب حاز على ما نسبته (٩٧٪) من ثقة المصوتين فى صناديق الاقتراع. وهذه قد تغرى بسياسات تناهض فكرة التوافق الوطنى، فالرئيس هو موضوع التوافق، وإبعاد أية شراكة وطنية محتملة مع أطياف الحياة السياسية، فهى ضعيفة ولا وزن لها وجماعات الشباب هامشية أيا كانت أصواتها مرتفعة، وتراجع مستوى الالتزام بالوثيقة الدستورية التى انتخب على أساسها، فالنسبة التى حصل عليها تكاد تكون هى ذاتها نسبة تأييد الدستور الجديد!
طريقة التفكير سوف تحكم مستقبل الرئيس «عبدالفتاح السيسى» وحكم التاريخ على تجربته فى الحكم.
بقدر انفتاحه على مجتمعه وتجاوز الحواجز التى تعوق تواصله تتأكد قدرته على مواجهة استحقاقات مهمته العسيرة فى إنقاذ بلد يتداعى اقتصاده ويوشك أن يوضع على أجهزة التنفس الصناعية. نجاحه نجاح للبلد كله وإخفاقه كارثة لا تحتمل نتائجها. هو رجل شعبيته مؤكدة والرهان عليه عبء إضافى ومسئوليته تدعوه لقراءة حقيقية بعيدا عن حفلات النفاق العام.
توقع أن يذهب (٤٠) مليون مصرى لصناديق الاقتراع ثقة فى شعبيته، ومن واجبه هو قبل غيره أن يسأل لماذا انخفضت توقعاته بنحو (١٥) مليونا رغم اليوم الثالث الإضافى الذى أضفى شكوكا دون ضرورة فى الانتخابات كلها وفق المراقبين الدوليين.
لماذا؟. السبب الأرجح أن قطاعا من الرأى العام يؤيد (٣٠) يونيو أحجم عن الذهاب للصناديق ضيقا بمستويات الأداء العام وهذه إشارة تململ مبكرة.
التحولات فى المشاعر العامة بطبيعة المرحلة وتحدياتها حادة ولا شىء يضمن استقرار النظام الجديد غير أن يقف على قواعد دستورية تضمن العدالة الاجتماعية والحريات العامة ولا شىء يضمن كسب معركة الصورة فى الغرب غير أن تكون هنا أولا وقبل أى شىء مطمئنة لمواطنيها.
[email protected]
أضف تعليق