نَصبُ الخطوطِ الحمراءَ للآخرين يتطلّبُ الشجاعةَ ورباطةَ الجأشِ والقدرةَ على المواجهةِ، لأنّ التصدّي للمتجاوزين قد يكونَ مقرونًا بدفعِ ثمنٍ باهظٍ. لا توجد خطوطٌ حمراءُ "عامة" تنفعُ كلّ الناسِ وهي تختلفُ من شخصٍ الى شخصٍ وتتعلّقُ بمكانةِ "المتجاوزِ" في اعيننا وبماهيةَ العلاقة معهُ
الخطوط الحمراء هي تلك الخطوط التي نرسمها حولنا ونعلن من خلالها للآخرين عن عدم سماحنا لهم بالاقتراب منها او باختراقها, ومن لن ينصَع لها سيلقى منا ردا حادا. "لن اسمح لأحد بأن يتدخل بشؤوني الشخصية.." و "لن أسمح لأي نسان ان يدهورني اقتصاديا مهما كانت قرابتي به.." و "لن اسمح لإنسان بإهانتي امام الآخرين". هذه أمثلة لخطوط حمراء نضعها للآخرين ونعمل على تطبيقها وتصبح جزءً من شخصيتنا. معروف عن الأُسود انها تقوم بتحديد منطقة نفوذها عن طريق التبوّل على اطراف المنطقة الجغرافية التي تعتبرها "ملكا" لها، ومن يجرؤ على تخّطيها فأنه يعرّض حياته للخطر. بعبارة اخرى الخطوط الحمراء ليست اختراعا حصرياً من صنع الانسان وانما غريزة تخص عالم الحيوان وهي منذ الأزل ضرورة حياتية ملحة.
عندما نستغني عن الخطوط الحمراء التي نضعها للآخرين نصبح عرضة "للهجوم" ولن يتورع بعضهم عن ايذائنا والمس بنا. قد يتساءل بعضكم "هل ما زلنا نعيش في الغاب"؟ ألا يوجد قوانين تحمينا؟ نعم، القانون يحمينا من الاعتداءات الجسدية والمادية ولكنه لا يحمينا من تطفل الآخرين ولا من تفوّهاتهم الفظة تجاهنا ولا من قيامهم بتجاهلنا ولا من الدوس على كرامتنا. هنالك صراعات خفيّة وقوى تحاول ان تفرض نفسها علينا بكل الوسائل.
لا توجد خطوط حمراء "عامة" تنفع كل الناس وهي تختلف من شخص الى شخص وتتعلق بالمكانة الحقيقية الذي يُشغلها "المتجاوز" في حياتنا، وتتعلق ايضا بالقيم التي نحملها والعقائد التي نؤمن بها وبتربيتنا وبمستوى ثقافتنا وبمزايانا الشخصية. هنالك ايضا أهمية لمتانة العلاقة التي تربطنا بالطرف "المتجاوز" فقد نتغاضى عن تهكم أبينا تجاه فكرة طرحناها، لكننا لن نسمح بذلك لصديقنا او لمن يجلس قبالتنا في القطار. هذه العوامل جامعةً تؤثر على كبر مساحة منطقة النفوذ التي نعتبرها ملكنا وعلى حساسية جهاز الانذار الذي نستعمله.
عندما يقوم مديرنا بالعمل بالصراخ او بالتفوه بعبارات غير لائقة تجاهنا لتقصير بدَرَ منا او ونصمت فأننا تسمح له بأن يتطاول اكثر فأكثر في المرات التالية، وعندما يقوم المسؤول عنا بمغازلتنا مستعملا عبارات تفوق الاطراء العادي المتداول في مكان العمل ونصمت فهذه "دعوة" له بان يغالي بتحرشه وقد تصل الامور الى عواقب غير محمودة. عندما نسمح لجارنا ان يتدخل في شؤون بيتنا ونسمح لحماتنا ان تقوم بترتيب صالوننا ولصديقنا بتحديد سلم افضلياتنا فنحن نعطيهم الاشارة الخضراء ان يتمادوا في تطفلهم وسنجد انفسنا يوما من الايام مسلوبي الارادة وعديمي السيطرة على حياتنا. عندما نضع خطوطا حمراء للآخرين ينبغي ان نكون جادين في ذلك ونسعى للحفاظ عليها بشكل فعلي والا نكتفي بالتصريحات او الشعارات وإلا فخطوطنا الحمراء ستبدو واهية وغير واضحة لمن حولنا وإذا شعر "المتحرش" اننا صمتنا مرة و"ابتسمنا" مرة اخرى فلن يفهم اننا غير موافقين على ما يفعله.
مارينا ابراموفيتش فنانة صربية من مواليد 1946، قامت بتجربة فريدة من نوعها في عام 1974، حيث قررت فحص السلوك البشري إن تم إعطاؤه فرصة في فعل ما يريد دون أية مقاومة، فوقفت واجمة كالصنم لمدة ستة ساعات أمام الجمهور في معرضٍ ما. في البداية كان الناس مسالمين جداً، ثم بدأت ردة فعلهم تزداد عندما رأوا انها لا تتحرك ، حتى ان أحدهم قام بتصويب مسدس نحو رأسها لولا ان قام احدهم بالتدخل ومنع الكارثة التي كانت على وشك الحدوث. وقد قام آخرون بتعريتها، وبالتحرش بها، وبضربها بالسلاسل، وبوخزها بالأشواك. ان دلت هذه التجربة على شيء فأنها تدل انه أذا لم توضع حدودا حمراء للآخرين فانهم سيتمادون بالتحرش بنا وبإيذائنا. تخيلوا ان من كان يحاول لمس جسد"مارينا" كان يتلقى لسعة الكترونية حادة او يتلطخ بمادة ملونة لا تزول بسرعة هل كان سيقوم بالاقتراب منها مرة اخرى.
نصبُ الخطوط الحمراء للآخرين يتطلب الشجاعة والثقة بالنفس ورباطة الجأش وبالقدرة على المواجهة، لأن التصدي للمتجاوزين قد يكون مقرونا بدفع ثمن يتعلق بمستوى وبماهية العلاقة التي تربطنا بهم. الى أي مدى نحن بحاجة اليهم؟ الى أي مدى هم بحاجة الينا؟. هنالك ميل لدى البعض منا بالمبالغة بالثمن الذي سندفعه لقيامنا بالتصدي للمتجاوز وكأنه سيقوم بمقاطعتنا او الصراخ في وجهنا او فصلنا من العمل، لكن هذا غير دقيق لأننا احيانا نختبئ وراء هذه الذريعة لكي لا نحاول. وقد يكون الثمن الذي ندفعه "لصمتنا" اكبر بكثير من الثمن الذي ندفعه من ردة فعلنا.
تجدر الاشارة بأنه مع ان وضع الخطوط الحمراء للآخرين يجعلنا اكثر سيطرة على حياتنا ويهبنا الشعور بالأمن والأمان وبالتمتع بالخصوصية إلا ان المبالغة به وتوسيع رقعته وعدم ملاءمته للواقع الذي نعيشه قد يمس بقدرتنا على اقامة علاقات حميمية مع الآخرين ويجعل الناس تخشى الاقتراب منا خوفا من لَسَعاتِنا وردود فعلنا الحادة وهنا قد نجد انفسنا آمنين في مكاننا لكننا معزولين عمّن حولنا.
باختصار, الخطوط الحمراء هي ضرورة تضمن لنا العيش الكريم والحفاظ على مكانتنا واحترامنا واحترام الآخرين لنا, وإن سعينا على الحفاظ عليها بشكل جدي نجد ان الآخرين بدأو بالتكيف لها وبمراجعة سلوكياتهم تجاهنا حسبها.
.
[email protected]
أضف تعليق