باغتني بل هزّني رحيل الأعزّ الوالد الكريم الحالم بالعودة بعودة أهله من بلاد اللجوء وبلائه، اندفعت شوقاً لأقواله المُسجّلة ولقاءاته المُصوّرة وكتاباتي المُدوّنة لعلّي استرجع جزءاً من ذكراه وملامح محياه.

وفي لحظة وجدتني فرحا مبتسما ماسحاً بلطف خجول حزنا عميقاً جامحاً في ثنايا فكري العطوف.. لقد وجدتها.. وجدتها أثراً حيّاً شامخاً كقلعة بلدته صفورية، مُنسابا بأفكاره وأقواله الانسانية المُحبّة والمُتفائلة كانسياب مياه قسطل صفورية.. وجدتها.. انها مقالة لي مُعتّقة، تشعّ حنينا من على أعمدة صحيفة الاتحاد عام 1988 تحت عنوان "وتتحقق نبوءة أبي".. انها فعلا النبوءة التي تتحقق بالكفاح والنضال.

ارتأيت تبجيلا لطيب ذكراه ان اقتطع خاطرة من المقالة نفسها، وان أحدد عنوانها بكلمة "فَشَروا" لأن أصحاب السياسة العنصرية والقهرية فَشَروا.. فَشَروا جميعًا.

إنك تكبر في وطنك، ربما ليس في بلدتك أو قريتك التي انبعث منها والدك حيا، انما بالقرب منها جسدا وروحا، من قرية وبلدة هدم كل جهد بانيها – أبناءها على مر الأجيال – وطُرد صانعو خيراتها، ساكنوها من الوطن. وبقيت راسخة في مُخيّلة أبي الواسعة اتّساع هذا الوطن، تفاصيل ما ارتفع من بنيان ودقائق حركة الحياة التي تثير الحنين.

واختصر ذاكرته بتأشيرة الى ساحة مدرسته المهدومة وبدمعة يتيمة ساخنة ملؤها الكبرياء وحرارة الحنين وبلفظة مندفعة هاربة من الاختناق. هذه مدرستي. ثم صمت جبار، عقيم الدمع، فضّةُ بابتسامة واسعة عميقة التفاؤل تبعث الامل في نفس ناظرها وفكره، الحقها بقول ينسجم ومضمون ابتسامته.. هُدم البيتان، مدرستي وبيتي. وبكم انتم، قال مخاطبا اولاده، نحن، ستستمر الحياة. وعليكم السير في الطريق السوي. طريق الكفاح من أجل مستقبل أفضل. ولكم ما تطلبون من علم حتى وان اضطرني راضيًا بيع ما يستر جلدي من ثياب.

كان عاملا كادحاً وما زال حتى رحيله. يسبق بزوغ نور الشمس بصلاة الفرض. ثم ينطلق بعيدا الى ورشات العمل في المدن اليهودية ليعودها تعبا مرهقا قبل ان يسبقه المغيب. وهكذا وباقي ابناء جلدته العمال العرب، الفلاحين سابقا، في دوامة يومية مريرة لاقتناص لقمة العيش. انه قارئ جيد ومحدث لبق، سارع الى اعلامي صغيرا بغباء وجهل وقصر نظر بن غوريون لتراث وتاريخ واصالة ووطنية وحس شعبنا العربي الفلسطيني. مشيرا الى ادعاء ورغبة بن غوريون بان "الكبار يموتون والصغار يُنسون"، وبان المتعلمين والمثقفين العرب في اسرائيل سيذوبون في حياة الدولة وسيجيدون اللغة والتراث العبري على حساب التراث واللغة العربية. وأضاف أقوالا لا اذكرها اتبعها ابي بكلمة صغيرة عميقة المضمون والنبوءة: فشر بن غوريون.. وفشرت سياسة حكومته والحكومات المتعاقبة.

كنا صغارا، تلاميذ المدرسة الرسمية المُستأجرة. نطلب العلم بل نعشقه. كبرنا قليلا وسرنا شبيبة غير منظمة في صفوف منتظمة تقودها اصوات تحترق صدقا اصغينا الى مضمونها فوجدنا فيها انفسنا، تاريخنا، واقعنا، مستقبلنا، امانينا المتفجرة تعترك منسجمة مع اجواء واصداء اصوات النضال والكفاح، شعار يحيا السلام، وبن غوريون اطلع بره.. الجزائر صارت حرة، ورفض الحكم العسكري والاضطهاد القومي والتمييز ومصادرة الاراضي وهدم البيوت، وحب جمال عبد الناصر وتعميق الوعي القومي والوطني والانساني، اصوات الاطفال والشبيبة والنساء والرجال تصدح في عنان السماء متشابكة في انسجام ثوري انساني رائع ما زالت تجلجل في اذني حتى يومنا هذا، وفي لحظة فرح حماسي سألت أبي من هم هؤلاء.. فأجاب باعتزاز وطني.. انهم الشيوعيون.. فأصبحت اردد مبتهجا طربا مع جموع المتظاهرين في عيد العمال العالمي، الاول من ايار في شوارع الناصرة.. تحيا الشبيبة.. الشيوعية. وما زلت أرددها وأعشق سماعها من حناجر الشبيبة الشيوعية حتى يومنا هذا ولينفلق الحاقدون.. هكذا ولد الانسجام العفوي والحقيقي بين ما نحمله من تربية وطنية ثورية متراكمة وبين الاطار التعبيري الصادق والثوري في الواقع اليومي المعاش، فأصبحت "الاتحاد" منذ سنين الطفولة الناضجة مدرستي الثانية واصبح الاول من ايار عيدا خاصا انتظره كأفضل عيد، هكذا كانت البداية وهكذا ستستمر.

امضيناها حياة مريرة وصراع بقاء قاسيا في وطن حاضن ما زال يحمل دفئ من سُلخ عنه. وكانت حقيقة ساطعة لا تحجبها ظلمة سياسة التجهيل مهما ازدادت حلكة ولا نشرات الحاقدين المفلسين المنسلخين بإرادتهم عن جسم شعبهم الحي وعن حركة مسيرته الدؤوبة نحو الحياة الانسانية الحقة. رأيناها الحقيقة، علما احمر منيرا تحمله زنود رفاق الشعب لقهر حلكة ظلام الحكم العسكري، ومناديا صادقا الى الكفاح والنضال المثابر شاقا غمامة هول النكبة بعزيمة وتفاؤل جبارين ومدافعا عمليا وعنيدا عن حق البقاء والحياة الكريمة على ارض الاباء والاجداد. انه تاريخنا الكفاحي. عزيز علينا، صنعناه نحن ابناء هذا الوطن مجبولا بدم وعرق شعب هذه البلاد الباقي في وطنه ابدا. فثمرة النضال اليومي المتنامي اعتصرناه قطرات عذبة لتروي ظمأنا الى الحياة الكريمة.. فتفتحت من عمق هذا التاريخ وعصارة تجاربه جبهة نضالية عريضة واسعة الصدر لكل الشرفاء المخلصين المناضلين من اجل السلام العادل والمساواة الحقيقية التامة على ارض الوطن من اجل رفع العلم الفلسطيني فوق مهد واقصى القدس عاصمة فلسطين الدولة المجاورة لدولة اسرائيل. من اجل النضال اليهودي العربي المشترك لتحقيق السلام العادل لشعبي هذه البلاد وشعوب المنطقة. جبهة جماهيرية نمت واتسعت ناشرة بذور تجددها شاقة طريق نموها بثقة واعتزاز كبيرين لتسود، كأفضل طريق واغنى زاد للسائرين في هذا الطريق في رحلتهم القدرية نحو الافضل انسانيا.. نحو ما تجمع عليه الشعوب من طموحات وامان.
وتتحقق نبوءة ابي المنطلقة من وحي الرصيد النضالي العريق والمشرف لأبناء هذا الشعب الذي يرى من خلال عتمة ومرارة وتآمر ذوي القربى نور قنديل زيته، التفاؤل.

"فشروا".. كلمة قالها في الماضي، مؤكدا في حينه بان المستقبل سيثبت ان فئة المتعلمين والمثقفين العرب في مواجهتهم اليومية والمباشرة لسياسة التجهيل والعدمية القومية سيكونون اكثر التصاقا بقضايا وهموم شعبهم ومدافعين امناء عن المصالح الوطنية والقومية لشعبهم وسيؤكدون انتماءهم القومي وسيصونون ويدافعون بأمانة وعناد عن تراثنا وتاريخنا وانجازاتنا الوطنية امام كل يد تحاول المس بهذه الكنوز.

وكانت وثيقة كنيغ اهم مادة وددت قراءتها لابي رغم اجادته القراءة، ربما رغبة مني في اثارة اهتمامه الى درجة اهتمامي المثار نفسها، وخاصة فيما يتعلق بالمثقفين العرب، وكان جوابه نحن لا نعيش في فراغ، هذه هي رغبتهم ان نكون تابعين مبايعين منقسمين لا حول لنا ولا قوة.. ثم اضاف لهذا سيبحثون عن اعوان يجيدون القراءة والكتابة في عدة لغات.

ولكن شعبنا لخبير يميز ويدرك بحسه ووعيه المتكون من صلب تجاربه بين الغث والسمين والمؤمن يا ولدي لا يلدغ من الجحر نفسه مرتين، وهذه خلاصة التجربة.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]