في توقيت يعتبر ذا خصوصية بالغة، حققت سورية إنجازاً عسكرياً ميدانيا في حلب متكاملا مع ما يسطره الجيش على جبهة الجنوب، انجاز يتميز في طبيعته وتداعياته عما سبقه من انجازات ميدانية كبرى،حيث يمكن اعتباره نصراً مركبا ذا أبعاد وتداعيات ميدانية وسياسية واستراتيجية تتعانق جميعها لتفرض اولتحدد وجهة ثابتة واضحة لمسار الحرب كلها، كما تؤشر الى المدى الزمني المتوقع لانتهاء العمليات الدفاعية المنفذة في سياق تلك الحرب الكونية التي يشنها الغرب الاستعماري ضد محور المقاومة عبر قلعته المركزية الوسطى سورية.
فالانجاز المتمثل بكسر الحصار الذي احدثه المسلحون على السجن المركزي في حلب، جاء متعانقا مع الذكرى الاولى لانطلاق القوات المسلحة العاملة في الدفاع عن سورية وفقا لـ«استراتيجية الأسد» التي بدأ العمل بها مباشرة عندما اطلق الاميركي «خطة اوباما» لاسقاط سورية في اذار 2013، كما انه جاء في الذكرى الـ 14 لانتصار محور المقاومة في تحرير أرض في جنوب لبنان بطرد العدوالاسرائيلي منه في ايار 2000، وايضا جاء على بعد ايام قليلة من مناورات تقودها اميركا في اسرائيل والاردن تحت تسمية «جنيفر كوبرا» و«الاسد المتأهب» لتمارس عبرها على سورية حربا نفسية علّها تتقاطع مع مشروع القرار الفرنسي الذي قدم الىمجلس الامن مع علم صاحبه باستحالة اقراره نظرا للموقف الاخلاقي والمبدئي للثنائي الروسي – الصيني الجاهز لقطع الطريق في مجلس الامن على اي مناورة عدوانية ضد سورية يقوم بها الغرب. وأخيراً جاء هذا الانجاز قبيل الانتخابات الرئاسية السورية حيث يتحضر الشعب السوري للتعبير عن ارادته وقراره في اختيار من يقوده لمواجهة العدوان، دونما تأثر بتهويل اوصخب خارجي . وقد اعطت هذه المحطات الزمنية كلها للانجاز العسكري في حلب بعداً ونكهة مميزة غير مسبوقة بطبيعتها ومفاعيلها.
ونعود الى الانجاز ذاته، فنرى أن كسر الحصار عن السجن المركزي في حلب لم يكن عملية عسكرية عادية، فهومن منظور عسكري يمكن وصفه بالمعقد والمركب، ذو الاثر الذي يتعدى المكان والهدف بذاته ليؤثر على كامل مسار المواجهة من الوجهة الاستراتيجيية. ولايضاح ذلك نذكر بأن الجماعات الارهابية العاملة ضد سورية، اقدمت على فرض حصار على السجن الذي ينفذ فيه عقوبته اكثر من اربعة آلاف سجين محكوما قضائيا بالشكل العادي قبل اندلاع الازمة في سورية . سجن يقع على مسافة 10 كلم من مدينة حلب في منطقة تتحكم بمداخلها الشمالية، وتشكل حلقة الوصل بينها وبين الحدود التركية . حيث إن المسلحين وبعد ان تمكنوا من الدخول الى تلك المنطقة بشكل مكثف حاصرواالسجن ثم اندفعوا الى احياء حلب الشمالية وتمددوا عبرها شرقا وغربا ووصلوا مناطق سيطرتهم فيها بالحدود التركية وفتحوا الطرق الواسعة عبرها لضرب المرافق الصناعية والانتاجية في حلب انتقاما من الشعب السوري وخدمة للاقتصاد التركي وكان ما يعرف بـ»قرصنة اردغان» لسرقة المعامل السورية وهدمها .
في مواجهة الحصار استبسلت القوات المسلحة السورية المولجة بالسجن حراسة وادارة، استبسلت في الدفاع والقتال لمنع المسلحين من الدخول اليه، ونجحت في ذلك رغم شدة الظروف وسوئها بالنسبة للمدافع المحاصر وعلى اكثر من صعيد ورغم فنون الاجرام التي مارستها الجماعات المسلحة وتعدد الهجومات على السجن، نجحت القوى المدافعة في منع المسلحين من تحقيق اهدافهم وتسجيل انتصار يبتغونه استراتيجيا وميدانيا بالدخول الى السجن، ما اضطرهم الى الى البقاء خارجه منتشرين على طوق محكم رسمت خطوطه حتى كادت تلاصق السور الخارجي للسجن الذي تحول الى جزيرة في محيط من جماعات مسلحة ارهابية ليست بالقليلة العدد اومحدودة القدرات .
هذا الواقع جعل الجيش العربي السوري غير طليق اليد في فك الحصار خاصة لجهة استعمال السلاح اوطبيعة الهجوم، ورغم ذلك وضعت الخطة المناسبة التي نجح تنفيذها في تمكين الجيش من فرض طوق خارجي يحاصر المسلحين في اكثر من موقع وقطاع في محيط بالسجن وصولاً الى بناء قواعد ارتكاز فعالة وملائمة للعملية، ثم اختيار نقاط الخرق التي تجعل العبور من خلالها منخفض الكلفة، ثم تحديد مراحل الهجوم بما يجعل النجاح اكثر احتمالا واقل خسارة . وهكذا اندفعت مفرزة الخرق الاساسية وتمكنت من بلوغ السجن وتحقيق الاتصال بالقوى المدافعة عنه، خرق نفذ عبر عملية رشيقة خاطفة ادت الى انهيار معنوي في جانب المعتدين ورفع المعنويات بشكل غير محدود لدى القوى داخل السجن ومعهم السجناء الذين اختار الكثير منهم الخط الوطني للدفاع عن سورية في وجه الارهاب والعدوان الخارجي .
وبنجاح المرحلة الاولى فتحت الطريق امام المراحل التالية فكان التقدم نحوسور السجن في عملية فاقم نجاحها انهيار المسلحين معنويا وميدانيا وحسمت نتائج العملية كلها قبل ان تنفذ المرحلة الثالثة والنهائية والتي ما ان نفذت حتى ادت الى كسر الحصار عن السجن ورسم مشهد جديد في منطقة حلب ومنها الى سورية كلها يمكن رسم خطوطه كما يلي :1)اكمال السيطرة على المنطقة الشمالية لحلب، ما أدى الى قطع خطوط امداد المسلحين عبر تركيا، وباتت مداخل حلب كلها تحت السيطرة الكاملة للقوات العربية السورية سيطرة بالقبض الميداني المباشر ( وجود القوى على الارض ) اوبالنار المؤثرة، كما هوالحال مثلا في طريق الكاستيلوحيث يتمكن الجيش من التحكم عن بعد بالحركة عليها عبر النار الارضية .
2)انقلاب حال المسلحين الموجودين في بعض احياء حلب الشمالية الشرقية من محاصرين يعملون على جبهة ذات عمق يمتد الى الحدود مع تركيا، الى جماعات معزولة مقطعة الاوصال منعدمة القدرة على توفير الامداد اللازم للمحافظة على القدرة القتالية لديها وفي هذا تغيير جذري لطبيعة المواجهة التي قلنا سابقا بانها تتحول من «حرب الجبهات»، الى «حرب الجيوب والاوكار « وبات عليهم القتال في مراكز معزولة ومطوقة اوالفرار والاستسلام، ولهذا الامر دلالاته العملانية والاستراتيجية الهامة التي تقود الى القول بان المحاصرين لن يقووا على قتال هجومي يحقق اهدافا كبرى بل جل اهدافهم ستكون قتالا دفاعيا بغية النجاة بانفسهم في ظل تردي حال اقرانهم واستحالة امدادهم بما يخرجهم من ورطتهم وان مثل حمص لناظره قريب.
3)فتح الطريق امام تطبيق « مخرج حمص « في حلب مع ارتفاع منسوب احتمال تنظيف المدينة كلها دون الاضطرار الى عمليات عسكرية قاسية اوقتال يفاقم الخسائر في الارواح والممتلكات، وسيكون تطبيق «مخرج حمص» مرجحا في الاسابيع المقبلة وفي فترة معقولة يستلزمها الضغط العسكري لانتاج القناعة لدى المسلحين بانهم خسروا الحرب في حلب وعليهم الاختيار بين النجاة بالابدان والتسليم والخروج اوالانتحار بالقتال الميئوس من نتائجه .
4)تأكيد جديد على تراكم الخبرات لدى القوات المسلحة المدافعة عن سورية في وجه العدوان المسلح عليها، والتأكيد على قدرة تلك القوات على العمل في ظرف ميداني معقد مثلته موقعة سجن حلب حيث تتداخل القوى، وضخامة التحصينات التي اعدها المسلحون، وكثافة الانفاق التي حفروها في المنطقة لتمكنهم من الحركة بمنأى عن النظر والنار، اضافة الى حجم حقول الالغام والنسفيات الكبرى التي حضرت حول السجن لمنع الجيش العربي السوري من الوصول اليه وفك الحصار عنه .
5)فتح الطريق واسعا امام تحكم الجيش العربي السوري بقرار الجبهة الشمالية لاقفالها لتكون الجبهة الثالثة التي يملك الجيش السيطرة التامة عليها بعد ان تمكن من احتواء الهجوم التركي المقنع على كسب ودفعه الى فشل ميداني افقد تركيا ومن خلفها ورقة استراتيجية مهمة كانت تهدد بها باستمرار، وبعد اسدال الستار على جبهة لبنان والامساك بزمام الامور في جبهة الوسط (الجبهات االرئيسية في سورية خمس ) . وسيكون لهذا الانجاز تأثير مباشر على رسم الملامح الاولى لتاريخ انتهاء الازمة من الوجهة الاستراتيجية والعسكرية (تبقى الامنية) وهذا ما يجعلنا نقول مطمئنين ان المتابع لما يجري في سورية بات بامكانه ان يرى نهاية النفق، ويرى فشل العدوان الاجنبي الذي استهدفها وسيكون الشعب السوري في 3 حزيران المقبل اكثر ثقة بالنفس بانه سيذهب الى صناديق الاقتراع ليؤكد الانتصار ويستثمره لصالح سورية والمنطقة والاحرار في العالم .
وفي كلمة اخيرة نقول ان صمود سجن حلب كان بذاته حدثا مميزا بذاته وعلامة فارقة في التاريخ العسكري، ثم جاءت عملية كسر الحصار لتتكامل معه وتشكل عنوان فخر عسكري لسورية وقواتها المسلحة، عنوان يضيف صفحة مضيئة الى ما سطرته من بطولات سابقة، عنوان سيؤكد للمعتدين ان جيشا يصمد رجاله في حصار لاكثر من عام، ثم يعمل رفاقهم على كسر الحصار في منطقة يلتهمها اللهب وينفذون عملية عسكرية مركبة استمرت اكثر من اشهر، هوجيش يستعصي على الانكسار .
[email protected]
أضف تعليق