ما أكثر التحديات التي تواجه مجتمعنا العربي في إسرائيل ، وما أكثر القضايا الشائكة والعالقة التي تبحث عن حل فلا تجد إلى ذلك سبيلا ... ما من شك في أن أغلب القضايا التي نعاني منها هي نتاج سياسات إسرائيلية تتراوح بين النظر إلينا كتهديد استراتيجي لا بد من إقصائه بكل الطرق الممكنة وغير الممكنة بما فيها التهجير وذلك في حدها الأعلى ، وبين اعتبارنا كَمًّا من الكولسترول السيئ ( بما في ذلك طبعا الدهون والسكر ) لا بد من التخلص منه أو التخفيف من حضوره في شرايين الدولة ، ضمانا لحياة إسرائيلية صحية ما أمكن !!! ، وذلك في حدها الأدنى ... هذا صحيح ، ولكن بين هذا وذاك مئات القضايا التي يجب أن نتحمل فيها المسؤولية شبه الكاملة ، لأن أغلب أوراق إدارتها بأيدينا على المستويين الفردي والجماعي ، ولا عذر لنا أبدا إن نحن هربنا من تحمل مسؤولياتنا تجاهها من خلال قذف الكرة في الملعب الرسمي الإسرائيلي ...

ظاهرة الغش عموما وفي امتحانات البجروت خصوصا تُعتبر وبلا مبالغة من الآفات الخطيرة في المجتمع التي ترشحنا لمزيد من الخسائر ، ليس بالنقاط فقط ولكن بالضربة القاضية أمام السلطة المركزية ، تُضاف إلى عدد كبير من الساحات التي خسرنا فيها المعركة بسبب خلل نرفض أن نُقِرَّ به ظلما لأنفسنا وعُلُوًّا عن الاعتراف بالواقع المر الذي صنعناه بأيدينا ... في الماضي غير البعيد بعث مدير عام وزارة التعليم إلى عدد من مدراء المدارس الثانوية في الوسط العربي ، يطلعهم فيها على خلاصة التحقيق الذي أجرته لجنة خاصة شكلتها الوزارة لفحص حجم ظاهرة الغش في امتحانات البجروت في مدارسهم ، والذي أشار إلى العدد الهائل من الدفاتر المشبوهة أولا ، وإلى اتساع الظاهرة وتصاعدها من سنة إلى أخرى ثانيا ... في رسائله للمدراء العرب هدد المدير العام للوزارة باتخاذ مجموعة إجراءات عقابية قد تصل إلى حرمان المدرسة من ( العلامة الواقية ) ، وإلى سحب الاعتراف وإلغاء الترخيص لمدة ثلاث سنوات ، إذا ما سجلت هذه المدارس حالات غش في العام الدراسي المقبل .. مؤخرا سمعنا بخبر تسريب نموذج امتحان الرياضيات ، الأمر الذي أعاد إلينا كابوسا ظننا أننا تخلصنا منه إلى حد كبير على أقل تقدير ..

من المسئول عن ( ثقافة !!! ) الغش في الامتحانات في مدارسنا الثانوية العربية ، أو في أغلبها حتى لا أتهم بالتعميم ؟؟!!!! ليست الدولة ولا الحكومة ولا وزارة التعليم ... المسئول هو نحن المجتمع العربي عموما والقائمين على جهاز التعليم خصوصا ... ظاهرة الغش في مدارسنا أصبحت القاعدة وليست الاستثناء ، وتوشك أن تقضي على ما تبقى من تماسك جهازنا التعليمي ، وَتُفَرِّغَ أبناءنا وبناتنا من روح العمل الجاد والتنافس الشريف ، وتكرس حالة البطالة الأخلاقية والقيمية ، وَتَهُدُّ حتى القواعد أسسنا الدينية والقومية والوطنية ، وَتخَرِّجَ أجيالا قد انطفأت في قلوبهم قناديل الطموح ، وخبت فيهم الهِمَّةُ التي بدونها تفقد الأمة وهجها وحيويتها وقدرتها على الإنتاج الثقافي والمدني والحضاري ، فتصبح مع الزمن نسيا منسيا ...

الأخطر من ذلك كله أنني لا أستطيع أن افصل ظاهرة الغش في الامتحانات عن سياق ( الانتحار الذاتي ) الذي نمارسه مع سبق الإصرار والترصد في عديد من مجالات الحياة ( العنف ، التفكك الأسري ، الانحطاط الأخلاقي ، طغيان الغرائز والنمط الاستهلاكي ... مثلا ) ، وهي انعكاس لحالة الغش بمعناه الواسع الذي اخترناه أسلوبا لحياتنا كمجتمع ، حتى أصبحنا نعيش حالة افتراضية غاية في السوء يحسبها الظمآن ماء ، وهي في الحقيقة السم الزعاف والموت الأسود ...

من خلال متابعتي لملف التربية والتعليم أستاذا ( ولو لفترة قصيرة بسبب رفض الوزارة ضمي إلى سلك التعليم لأسباب لا تخفى على أحد ) ، ورئيسا لبلدية كفر قاسم لعشر سنوات ، وأبا حريصا على حماية ابنه الوحيد من لدغات هذه الظواهر الفتاكة لروح الشباب ، وهو ما زال طالبا حينها في المدرسة الثانوية ، ورئيسا للحركة الإسلامية ونائبا في البرلمان ، وصلت إلى قناعة لا ريب فيها أن الغش في امتحانات البجروت ما هو إلا عرض لمرض مستفحل ، ومظهر من مظاهر الخلل الخطير الذي أصاب بناءنا القيمي والأخلاقي والاجتماعي والروحي ، والذي لا يختلف اثنان على ضرورة محاربته لما يشكله من خطر على حاضرنا ومستقبلنا ، إلا أن أحدا - مع الأسف – غير مستعد لقول الحقيقة ، ثم هو يتبعها بخطوة ايجابية في اتجاه تخليص مدارسنا من هذه الآفة مرة وإلى الأبد ...

أصبحت ظاهرة الغش سلوكا اجتماعيا مقبولا وفي جميع مراحل التعليم ومنها الثانوية طبعا ، إلى درجة أصبح معها الطالب الذي لا يغش متهما في سلامة عقله ، ساذجا ، جبانا ومتخلفا يفتقد إلى الشخصية القوية المغامرة والجريئة ... وقد يذهب البعض إلى أبعد من ذلك فَيَتَّهِمَ من لا يَغُشَّ أو لا يحب أن ( يُغَشِّشُ ) بالتنكر لقيم الصداقة والأخوة والتعاون ... سبب ذلك في رأيي المتواضع هو غياب التربية الأصيلة ، وسيطرة ثقافة مشوهة تفصل بالممارسة اليومية بين العلم والعمل ، حتى ما عاد للقيم العليا دور في توجيه الأجيال وترشيد مسيرتهم وضبط حركتهم ، وما عاد الآباء والمدرسون والمدراء إلا من رحم الله يحرصون على توجيه الطلاب إليها ، وهم الحريصون على تحصيل نسبة النجاح في مدارسهم حتى لو جاءت على حساب هذه القيم الأصيلة التي هي صمام الأمان لحياة سعيدة وغير مزيفة لأجيالنا . ضعف الإيمان سبب ثان ، فلا يمكن لقلب عامر بالإيمان أن يغش وهو يعلم أن ذلك مخالف لأوامر الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم . ضعف الإيمان وغيابه معناه تفنن في اختراع الحيل ، وإبداع في إنتاج وسائط الخداع ، وبذل للجهود التي لو بُذِلَ بعضها لتحقق النجاح من غير اللجوء إلى الغش . الخمول واهتزاز شخصية الطالب سبب ثالث ، فمن الطبيعي أن ترى الطلاب في حال اجتهاد دائم ومستمر ، حتى إذا حان وقت الامتحان ازداد اجتهادهم وتضاعف جهدهم ، وهذا حال من لا يعتمد على الغش ، أما الآخرون فتراهم في لهو ولعب طول العام ، يشكلون بسلوكهم شوكة في جنب مدارسهم أو في حلقها ، ومصدر قلق دائم لأجهزتها والعاملين فيها ، فإذا ما جاء وقت الامتحان رأيتهم يفرضون ( إرهابا ) يهز الاستقرار والأمن في المدرسة ، ويعكر صفو الحياة فيها ، لأنهم يريدون أن ينجحوا بكل ثمن ، ويا ويل من يقف في وجههم ...

إن استسلامنا أمام هذه الظاهرة الخطيرة ، فوق ما له من أضرار قريبة المدى منها سحب ( العلامة الواقية ) ، ( وإلغاء الاعتراف ) ، وهي بلا شك ضربة قاصمة لمؤسساتنا التعليمية ، فإن له أضرارا تفوق ذلك بكثير ... فالغش سينتج لنا جيلا لن يطمع في حياته بأكثر من أن يكون موظفا في مؤسسة – هذا إن نجح في تحصيله الجامعي - ، أما أن يكون مبدعا ، مبادرا ، طلائعيا ، مضحيا ، رساليا وحاملا لهموم دينه وشعبه ووطنه ، فهذا أمر لا يخطر له على بال ، وهو الذي ملأ قلبه وكيانه بالغش والخداع . الآلاف الذين يتخرجون سنويا ، والقلة منهم الذين سجلوا إبداعات تفخر بها الأمة ، أكبر دليل على ما ذهبت إليه ... هنالك صلة وثيقة بين الهواء التربوي الذي يتنفسه الطالب وبين حاله فيما بعد ... فما نراه اليوم من استباحة للقيم بين الشباب حتى أثناء الدراسة ، وطبعا بعدها ، هو دليل على قصور نشهد احد تجلياته السوداء في الغش عموما والغش في الامتحانات خصوصا ...

تريدون استقرارا في المدارس وفي المجتمع ... تريدون أجيالا تبني ولا تهدم ، وتعمر ولا تدمر .. تريدون أبناء وبنات يحملون الهم ، ويتمتعون بالهمة التي تزحزح الجبال ... الطريق لذلك كله يبدأ من منع ظاهرة ( الغش ) في الامتحانات بعد تحريمها الشرعي والوطني والقومي ...

عودة الروح إلى جهازنا التعليمي العربي بعد تطهيره من نجاسات الغش ، سيعيد الطالب إلى وعيه الذي غاب ، وسيلزمه بالانشغال والتعب والسهر على دروسه في كل مراحل الدراسة ، عندها لن يجد الوقت للعب والعبث ( والزعرنات ) ، ومن أصر على التمرد ، قام المجتمع في وجهه حتى يعود عن غيه ، أو يمضي في حال سبيله ...

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]