قرار وزارة الأمن الإسرائيلية مؤخرًا بإرسال دعوات تجنيد في الجيش الإسرائيلي للشبان العرب المسيحيين مواطني إسرائيل هو موضوع شائك وله أهداف بعيدة، ليست متعلقة بحاجة الجيش الإسرائيلي لمتطوعين أو جنود إضافيين. ويسأل السؤال، لماذا الآن وفي هذا التوقيت بالذات؟ ولماذا الشبان العرب المسيحيين دون سواهم من إخوانهم العرب المسلمين؟

أود أن أنوه بداية أن الصلاحية للدعوة للتجنيد الإجباري للجيش الإسرائيلي مستمدة من البند السادس من قانون الخدمة العسكرية الذي سن عام 1949. هذا البند يمنح وزير الأمن الصلاحية لدعوة من يراه مناسبًا من مواطني إسرائيل الذين تتراوح أعمارهم بين 18-29 عاماً من الذكور وبين 18-26 عاماً من الإناث لأداء الخدمة العسكرية الإلزامية. ورغم هذه الصلاحية، استثنى وزراء الأمن في حكومات إسرائيل المتعاقبة الشباب العرب الفلسطينيين مواطني إسرائيل من الخدمة العسكرية، على اختلاف طوائفهم، الإسلامية والمسيحية والمعروفية (الطائفة الدرزية). في سنة 1956، وفي أعقاب اتفاق بين الرئاسة الروحية للطائفة المعروفية ووزير الأمن الإسرائيلي، تقرر دعوة الشباب العربي المعروفي للخدمة العسكرية، ومنذ ذلك التاريخ يدعى كل شاب عربي درزي يبلغ سن الثامنة عشرة إلى الخدمة العسكرية.

منذ قيامها وحتى اليوم، انتهجت حكومات إسرائيل سياسة تمييز عنصري ضد الفلسطينيين الذين أصبحوا بعد النكبة مواطنين في إسرائيل. وقد اتسعت هذه السياسة وتعمقت لتشمل كافة المؤسسات الرسمية الإسرائيلية، حتى وصلت، كما جاء في بعض الأبحاث الجامعية- إلى حد ما - إلى السلطة القضائية. معظم القوانين التي تقرها السلطة التشريعية (الكنيست) والأنظمة التي تسنها السلطة التنفيذية (الحكومة) تميز بشكل واضح وصريح ضد السكان العرب الفلسطينيين. ولا تكتفي الحكومة بهذا القدر من التمييز، حتى أنها تمارس التمييز ضدهم أيضًا في تطبيق القوانين التي تبدو في ظاهرها على أنها تساوي بين جميع المواطنين. لا مكان في هذا المقال القصير للدخول في تفاصيل التمييز ضد الفلسطينيين.

في الفترة الأخيرة، وخصوصاً السنوات الخمس الأخيرة، ومع سيطرة القوى المتطرفة على الحكومة والكنيست، انتشرت وازدادت الجرائم العنصرية التي باتت تعرب باسم " تدفيع الثمن"، وهي جرائم ضد الوجود العربي في البلاد وفي مناطق السلطة الفلسطينية، وتستهدف هذه الجرائم الأماكن المقدسة للطوائف العربية الإسلامية والمسيحية: الكنائس والمساجد والمدافن بكتابة شعارات مسيئة للنبي محمد(صلعم) وللشعب العربي مثل "الموت للعرب" وغيرها من الشعارات العنصرية، بالإضافة إلى حرق المساجد، تدنيس المدافن والاعتداء على كرامة الموتى. طالت اعتداءات هؤلاء في الضفة الغربية الأشجار والمنتجات الزراعية، مورد معيشة سكان المنطقة، قطعها وحرقها: الاعتداءات على "الحجر والبشر والشجر" ووصلت وقاحة هؤلاء المجرمين إلى الوصول شخصياً إلى مكتب مطران طائفة اللاتين في الناصرة، سيادة المطران مركوتسو، تدعوه إلى الرحيل مع أبناء طائفته حتى الخامس من أيار 2014، وإلا سيتم اغتياله مع عدد من المسيحيين.

والغريب في الأمر أن أكثرية هذه الجرائم لم يتم القبض على مرتكبيها أو تقديمهم للعدالة وفرض الأحكام الرادعة، رغم بيانات "الشجب" الحكومية التي تصدر بين الحين والآخر مما يعطي الانطباع أو الاعتقاد أن الحكومة الإسرائيلية وأجهزة الأمن فيها "راضية" عن تنفيذ هذه الجرائم، وسكوتها وعدم اتخاذ الإجراءات الحاسمة لوضع حد لها تثير مجالا للشك أن سكوتها يشكل دعماً معنوياً لمنفذي هذه الجرائم، في محاولة "لإقناع" العرب، أصحاب الوطن والأرض الأصليين ، إلى الهجرة إلى خارج البلاد تتمة لسيناريو الذي تم تخطيطه سنة 1948.

و"تطورت" هذه الجرائم والسياسة لتشمل محاضرين عرب في الجامعات يعملون على دراسات أكاديمية تعالج سياسة التمييز، لوضع حد لها والمحافظة على الحقوق القومية للعرب الفلسطينيين سكان إسرائيل، وتهديد محاميين يدافعون في قضايا التنظيم والبناء ويحاربوا "قانونياً" سياسة مصادرة الأراضي وهدم البيوت بحجج مرفوضة والعمل على إلزام سلطات التنظيم والبناء القيام بواجبها في تنظيم المدن وإعداد الخرائط الهيكلية والتفصيلية في الوسط العربي لإصدار رخص بناء قانونية.

في هذا السياق وعلى هذه الخلفية، بادر بعض أعضاء الكنيست من حزب رئيس الوزراء نتنياهو إلى الاتصال مع أحد الكهنة، وأوكلوا له مهمة دعوة وحث الشباب العربي المسيحي للتطوع في الجيش الإسرائيلي أو الخدمة البديلة له المعروفة باسم "الخدمة الوطنية"، التي تشرف على تنفيذها وزارة الأمن الإسرائيلية أو مكتب رئيس الحكومة ودوائره المختلفة، وبمساعدة ما يسمى "بالمنتدى المسيحي". لتسويق هذا المخطط، يدعي مروجو الخدمة العسكرية وبدائلها أن ذلك سيؤدي إلى حصول الشبان الخادمين على حقوق مدنية متساوية مع اليهود، ويمكنهم من الانخراط في المجتمع الإسرائيلي وأن يصبحوا جزءاً منه. ودعماً للكاهن والمنتدى، قام بعض الوزراء بزيارات دعم وتأييد لهم في مدنهم وقراهم ودعوهم لمقابلات في مكتب رئيس الوزراء ومع رئيس الوزراء نفسه.

الادعاءات والمبررات التي تطرح لتنفيذ هذا المشروع غير صحيحة وتهدف إلى تضليل الشباب العربي، على مختلف طوائفه الدينية. أكبر برهان على ذلك ما حصل لإخواننا أبناء الطائفة العربية المعروفية، حيث فرضت الخدمة الإلزامية عليهم منذ العام 1956، لكنهم ما زالوا يعانون نفس سياسة التمييز والإقصاء التي يعاني منها بقية أبناء شعبهم العربي، من مصادرة لأراضيهم وسياسة الإفقار والتهميش والإقصاء.

سألت نفسي وأتساءل- ما هدف هذه "الصحوة" المفاجئة؟ هل الجيش بحاجة إلى عدد أكبر من الجنود كي يتمكن من القيام بمهامه؟ اعتقد أن ذلك ليس الهدف من هذه الخطوة. وجدت الجواب لهذه التساؤلات في أقوال عضو الكنيست من حزب الليكود يريف ليفين، كما جاءت في الموقع الالكتروني لجريدة هآرتس بتاريخ 25.2.14، حيث قال: أن بإمكان المسيحيين "أن يشغلوا مناصب إدارية في شركات حكومية ويحصلوا على تمثيل منفرد في السلطات المحلية"... "سيحصلون على مساواة في فرص العمل" ... "بيننا وبين المسيحيين يوجد الكثير من المشترك، هم حلفاؤنا الطبيعيون"... "هم يشكلون قوة مضادة للمسلمين الذين يريدون تصفية إسرائيل من الداخل". بات من الواضح الآن أن الهدف من وراء هذه السياسة هو زرع الفتنة بين أبناء الشعب والواحد، وإتباع سياسة فرق تسد. ما يستشف من أقوال ليفين هذه أن الحكومة الإسرائيلية تريد تفتيت المجتمع الفلسطيني بالداخل، وليس الحصول على بضع عشرات من المتطوعين في جيشها.

والسبب الثاني لهذه السياسة هو ما صرح به ليفين مؤخرًا من سعيه وسعي حكومته إلى استبدال بند القومية بالانتماء القومي في بطاقة الهوية بالانتماء الطائفي. بجرة قلم يريد ليفين أن يحولني ويحول قوميتي من عربي إلى مسيحي! هذا بدون شك الهدف الأخطر من وراء ما تحيكه الحكومة الإسرائيلية للأقلية الفلسطينية في الداخل. حرب ضروس على وعيهم وروايتهم التاريخية وهويتهم القومية. محاولة تشويه لانتمائهم القومي وتحويلهم إلى أشلاء شعب. هكذا يريد ليفين وحكومته أن نكون، مجرد طوائف ملتحقة بهم.
عجيبة وغريبة الديمقراطية الإسرائيلية!! هي التي تقرر قوميتنا؟ نؤكد: نحن عرب، والطوائف الدينية تختلف ولكن كلنا شعب واحد ولن نقبل غير ذلك.
من المناسب أن أشير هنا إلى بيان مجمع الكنائس الكاثوليكية الذي صدر بتاريخ 29.6.2013 والذي يعارض حملة التجنيد لسببين: احدهما: "صهر جميع المواطنين في بوتقة واحدة ترسخ فيهم وعياً واحداً إسرائيليا الأمر الذي يتناقض مع ضمير المواطن الفلسطيني".
وأخيرا أود أن اذكر الجميع أن مثل هذه الحملة، "التجنيد للجيش"، سبق وقام بها الحكم العسكري بمساعدة رجل دين في درجة عالية جداً، ولكن جهوده وجهود الحكم العسكري ومكتب رئيس الوزراء آنذاك فشلوا في مهمتهم وبقينا شعباً واحداً … وسنبقى!

نرفض سياسة الحكومة الإسرائيلية- سياسة "فرق تسد" ونناشد كل الهيئات والقوى الديمقراطية والعقلانية سواء في إسرائيل آو في العالم، الوقوف إلى جانب السكان العرب الفلسطينيين- على مختلف طوائفهم- لمقاومة وصد سياسة "فرق تسد".

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]