في خطوة لافتة، وقبل نحو الأسبوعين، أصدر البطاركة ورؤساء الكنائس في القدس الذين وصل عددهم لثلاثة عشر، وقد مثّلوا كل الكنائس الموجودة في فلسطين التاريخية بيانًا- حول أوضاع العرب الفلسطينيين، عبّروا فيه عن رفضهم لمحاولات تجنيدالشباب العرب المسيحي في جيش الاحتلال الإسرائيلي.
صدرت، قبل هذا البيان، بيانات عديدة باسم مؤسسات مسيحية أجمع أصحابها على رفض دعوة تجنيد العرب المسيحيين. بعض البيانات والمقالات هذه شددت على أصلانية العرب المسيحيين وعروبتهم التي لا تشوبها شائبة، أمّا بعض العارفين في تاريخ الأمة، فاستحضر، للبرهان والبيّنة، مواضي كابوتشي والحجار وأسلافنا البررة.
قد يرى البعض في حملة التنديد المسيحية هذه أمرًا ضروريًا، جاء ليؤكد حقيقة معروفة آثر البعض أن يتنكر لها، وربما لم يتعد كل ذلك كونه رد فعل أقلية خائفة وجدت نفسها في فضاء عام يثقل عليها ويحرجها، وهي لذلك بحاجة للدفاع عن مكانتها وتأكيد نصاعة مواقفها الوطنية، حتى وإن كان تلويمها متخيّلًا، أو حتى لو كان الهجوم عليها مغرضًا والتحرّش هزيلًا.
تزامن إصدار بيان الكنائس الجامع مع دعوتي الشخصية من قبل اللجنة التحضيرية المنبثقة عن لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية، وهي على ذلك مشكورة، وذلك لأشترك "في الاجتماع التحضيري والتمثيلي لهيئاتنا الوطنية والأهلية، ولمناقشة الاستعدادات الأخيرة للمؤتمر الوطني العام ضد تجنيد شبابنا العربي لخدمة الاحتلال، بكافة أشكاله العسكرية والمدنية".
انعقد الاجتماع في مدينة الناصرة يوم السبت السابع عشر من أيّار، وتعذّر عليّ حضوره.
ذكًّرتْ الدعوة بهدَفيِ المؤتمر: التصدي للمخططات الحكومية الإسرائيلية وأي جهة أخرى، الهادفة إلى تجنيد شبابنا العربي الفلسطيني في خدمة الاحتلال. أمّا الهدف الثاني، فتوخّى وضع خطة عمل استراتيجية بمشاركة السلطات المحلية العربية وآخرين، وذلك لرفع مستوى الوعي والانتماء الوطني والقومي. هكذا أكدت الدعوة وبشرت إلى أن السادس من حزيران القادم سيكون يوم انعقاد المؤتمر المذكور.
من الواضح، لكل ذي لب ومتابع، أن ما أسمي بقضية "تجنيد المسيحيين" العرب، المواطنين في إسرائيل، وما لحقها من تداعيات في الآونة الأخيرة، كانت هي المفاعل الذي أنضج فكرة عقد مؤتمر "ضد تجنيد شبابنا العربي لخدمة الاحتلال"، وبما أن كثيرين تيقنوا، وبعضهم متأخرين، أن مسألة تجنيد المسيحيين هي فقاعة سامة وطعم التهمه عديدون ووقعوا في حبائله، فقد ابتعدوا عمّا اعتراها من لغة تفتيتية وخطاب جامح ملأ سماء بيدنا وأرضها! ولم يَقصروا الدعوة على تجنيد المسيحيين، بل لجأوا إلى إعداد نص فضفاض خجول؛ يخفي ويربك، يداهن ولا ينطح.
محاولات حكام إسرائيل وأسلافهم للتفريق بين أبناء الشعب الواحد لم تتوقف ولا ليوم واحد منذ مؤتمر "بازل". ولقد سعوا، بكل ما ملكوه من وسائل وأساليب، من أجل تفريقنا إلى ملل وشيع، ودائمًا وجدوا لهم أعوانًا عربًا وأذنابًا مستعربين، بيد أنهم لم ينجحوا في الماضي بتحقيق مآربهم، لأن الجماهير العربية وقياداتها الوطنية الواعية فوّتت عليهم الفرص وأفشلت مخططاتهم.
لقد جاء تأكيد معظم المؤسسات المسيحية على موقفها الرافض لتجنيد العرب المسيحيين من باب الإخلاص إلى موقف هذه المؤسسات الوطني التاريخي في فلسطين وإسرائيل على السواء، إلى ذلك أبرزت هذه البيانات والمواقف، وإن لم تقصد ذلك، غياب موقف مشابه من المؤسستين الدينيتين الأخريين، خاصة وهنالك العديد من المشايخ وعشرات الأئمة الذين يصمتون أو بعضهم يدعو إلى التجنيد بأصوات عالية وأفعال حقيقية جليّة.
بعض المشاركين في لقاء الناصرة ذكّروا بمؤتمر الجماهير العربية الذي حظرته حكومة مناحيم بيغن عام ١٩٨٠، حين لجأت هذه إلى أنظمة الطوارئ ومنعت انعقاده بخطوة كيدية تعسّفية. لكنني أؤكد أن لا أوجه شبه بين المؤتمرين إطلاقًا.(سأكتب عن ذلك في مقالة منفردة).
لقد دعت قيادات ذلك الزمن إلى عقد مؤتمر جامع للجماهير العربية ومنسوب الانتماء الوطني كان في الذرى والروح خفاقة عارمة، أمّا اليوم، فمن سيعد خطة استراتيجية بهدف رفع مستوى الانتماء القومي والوطني ويسعى لإشراك رؤساء مجالس محلية وغيرها، عليه أن يسمي الأشياء بأساميها، فعن أي مجالس محلية يشير البيان، هذا الذي يغفل وجود لجنة رؤساء مجالس درزية مستقلة وهيئة مجالس بدوية مستقلة كذلك؟
وكيف سيحارب رؤساء مجالس قضية التجنيد لجيش الاحتلال وبعضهم، مدعومًا من قوى وطنية وإسلامية، لم ينبس ببنت شفة ضد الظاهرة وهذا في أحسن الأحوال؟
إن التصدي لكل من يدعو الى تجنيد الشباب العربي لجيش الاحتلال واجب ومشروع، وهو سهل -في حالة التصدي- لدعوة أطلقها نفر قليل من أقلية تعيش كجزء من أقلية، ولكنه يصير توريطة إذا جاء في حق قبيلة كاملة تستقبل رئيس أركان جيش الاحتلال وتحتفي فيه ومعه بقضها وقضيضها، وهو يكون عسيرًا إذا أشهر في وجه قرية تستذكر شهداءها الذين سقطوا دفاعًا عن تراب إسرائيل في حروبها مع أعدائها العرب.
أما أذا كان التصدي لمشايخ وأئمة أجلاء صمتوا أو دعموا التجنيد، خفية أو علنًا، فهذا قد يعادل إنتحارًا! فأين غاب جميع المنتقدين مثلًا، عندما هنأ القائد العام "جانتس" مئات الجنود المسلمين وجاهةً، في عيد الفطر الأخير وقال: "هذا اليوم يشكل علامة فارقه لنستذكر عطاءاتكم عبر السنين من أجل أمن دولة اسرائيل ولنعبّر عن تقديرنا العميق لدعمكم الصلب ولمهمات الدفاع عن مواطني الدولة". (كما ورد في بعض الصحف- ٧/٨) وهذه واحدة من عشرات المفارقات التي مرّت دون التفاتة ما أو ملاحقة ولا حتى عتاب.
لن أروي جميع تفاصيل الوجع، ففي الناصرة ظهرت مجموعات من الشباب الذين تحدثوا بجرأة وصراحة وبلغة الأمل، وساءلوا قيادة غابت أو داهنت أو تلعثمت، فعلى حراكاتهم معقود أمل، ومنهم قد يطل رجاء في حزيران، وما أدراك ما حزيران!
[email protected]
أضف تعليق