ينبع من فهمنا للدولة على أنها مشروع كولونيالي إحلالي ( يرى الأصلاني غازيا والغازي أصلاني)، وليست "دولة" تجاهنا، أن علاقة صراع تحكمنا مع الدولة، وليست علاقة مواطنة طبيعية.
ومشروع المواطنة الذي عليه يبني التجمع تحليله ومشروعه، لا ينطلق من أن الدولة تدير معنا علاقة مواطنة عادية، بل ينطلق من إطار المواطنة الطبيعية (المفقودة)، أولاً: لفهم طبيعة الدولة ومحاسبتها، وثانيًا: لتطوير مشروع مطالبة بمواطنة حقيقية.
وضمن علاقة الصراع هذه، فإن الدولة لا تصادر الأرض فقط، بمعنى مصادرة ملكيتنا للأرض، بل هي تصادر الوطن، بالأحرى علاقتنا بالوطن، فتغير ملامحه، وشكله وهويته، وأسماء شوارعه وجماليات مشهده، حتى لا يعود يشبه وطننا في شيء.
والكولونيالية التي تراك غازيا، تحرمك من السيادة على وطنك، فلا تكون شريكا أو منتفعا من استعماله واستثمار موارده، بل تكون ملاحقا ومحاصرا فيه، ويتوقف الوطن عن أن يكون سياق وحاضنة تطورك.
إن أول ما يميز علاقة المواطنة )الطبيعية، من نافل القول)، عن علاقة الصراع أنك في علاقة المواطنة، تدير نضالك من خلال الأدوات التي تتيحها لك أو تنتجها لك الدولة، بينما في علاقة الصراع فالمقموع يخلق أدواته، التي لا ترضى عنها الدولة.
وصراع المقموع ينجح ليس عندما تحرج الدولة من المطالب، وليس عندما ينجح المقموع في فهم طبيعة المشروع الذي يواجهه، أو عندما ينجح في فضحه، بل عندما لا ترضى الدولة وتحرج وترتبك في مواجهة أدوات نضاله.
صحيح أن الدولة عادت لتتبع معنا منذ الانتفاضة الثانية، سياسات أكثر عنفا وشراسة ومباشرة، من العقدين اللذين سبقاها، بل إنها تجمع الآن بين بعض شراسة الحكم العسكري، عنف الشرطة، طرد السكان وسياسات مصادرة بالجملة، وبين تكثيف سياسات الولاء والجزرة، الامتيازات للخادمين أسيادهم. لكن الفجوة تبدو حاليا بين فهمنا المشروع الاستعماري وادعاءاتنا تجاهه من جهة، وبين أدائنا النضالي، أكبر مما كانت عليه قبل عشرين سنة أو أكثر، باستثناءات تشكل هبات وليس نموذجا: يوم الأرض، ونضال الروحة، ومظاهرات برافر، إلى حد ما.
وإذ لا نطور أدوات نضالنا غير المشتقة مما تتيحه وتعرضه الدولة، فإننا لا نفعل ذلك، ليس لأن الدولة لا تريد ذلك، وهذا طبيعي، بل لأن أمامنا عوائق نفسية للنضال، أمامنا عائق قناعتنا بأن على المقموع أن ينتج حدود شرعية نضاله بنفسه، دون أخذ موافقة القامع، وأمامنا عائق الإيمان بجدوى النضال، وأمامنا عائق القناعة بأن لدينا ما نخسره. فنصل لوضع فيه يرفض أصحاب بعض البيوت المهدمة بالتظاهر، أو يحرجون من علم فلسطين، أو من إغلاق الشوارع من قبل المتظاهرين.
ويبدأ ذلك بأن يتبنى المقموع رضى القامع عن أدوات نضاله، وينتهي بأن يعدل المقموع من نفسه، كلما وصفته الدولة بأنه "عنيف"، أو " متطرف".
ولا يفهم المقموع، أن الدولة تصف بعض "الجهات" بالمتطرفة، عندما تجد مقابلها من تصفه "بالاعتدال"، فلولا "المعتدلين"، لم يكن هناك من يوصف "بالمتطرفين"، وأن القضية ليست "التطرف"، بل عدم إجماعنا على نضال يزعج الدولة ويربكها.
بالتالي، نحن نلاحق بالمظاهرات، أو عندما نغلق الشوارع، ليس لأننا نفعل ذلك، بل لأننا لا نفعل ذلك بالقدر والقوة الكافيتين، ولو حولنا ذلك لاستراتيجية شاملة لما استطاعت إسرائيل مواجهته بملاحقة الآلاف.
لقد نجحنا في كسر حدود تعريف إسرائيل للديمقراطية، للعدو، للصديق، للواجبات، للحقوق، لكننا لم ننجح في كسر تعريف إسرائيل "لشرعية النضال"، أو لحسابات الربح و"الخسارة" فيه.
نحن فلسطينيون في فضح إسرائيل، في المعاناة وفي الجهر بعنصريتها، وبشعور الولاء والانتماء لشعبنا، (مرة أخرى شعور الولاء، أي العاطفة الوجدانية، التي ليس من الضروري أن ينسجم سلوكنا السياسي والاقتصادي معها). لكننا "إسرائيليون"، بالاكتفاء، بالرضى، بتغليب حسابات فشل النضال على حسابات نجاحه.
لقد نجحت إسرائيل في خلق الحاجة للوضع القائم، والرضى عنه رغم واقع القمع والإهانة. وبالتالي لم تقبل وسائل الإعلام العربية إعلانات الخدمة المدنية ليس لأنها "عميلة"، بل لأنها ذوتت واقعا من الاضطرار، اضطرار مادي، اضطرار "للرضى الإسرائيلي". تذويت حالة الحاجة للقامع يخلق حالة عبودية، أخطر بكثير من حالة "للعمالة"، لأن العميل قد يكسر المعادلة ويغيرها عندما يشعر بقوته، لكن " المضطر" ينطلق من "حاجته"، و"اضطراره" دائماً.
" الاضطرار"، أو خلق نفسية الاضطرار، هي أنجع آليات السيطرة في كل شيء. وعدم إدراك الخيارات وفتحها على وسعها، هي من مزايا العبودية.
أما فيما يتعلق بخلق أدوات نضالنا (التي لا تنتجها الدولة ولا تريدها) فهي تبدأ/ تنتهي بإعادة إنتاج لجنة المتابعة، مرورا بحراك شبابي ينظم نفسه بنفسه (وهنا نسجل نجاحا)، مدعوما بشكل جدي وحقيقي من قبل التيارات السياسية (ما لا يحصل بالنسبة لكل الأحزاب)، ومرورا بتطوير أشكال احتجاج مختلفة: إغلاق شوارع، مظاهرات تشل الدولة، مقاطعة رؤساء السلطات المحلية لوزير الداخلية، دعوة السلطات المحلية لسكانها لمظاهرات احتجاجية أمام مكاتب لجان التخطيط، شركة الكهرباء أو غيرها، طوال جلسات المداولة في مشروع مصادرة أو غيره.
مع كل ما قلته، هنالك مشكلة أعمق، وهي لا تكمن فقط في عدم استحداثنا لأدوات نضالنا، بل في عدم استثمار أدوات تتيحها الدولة نفسها.
وفيما يتعلق بقضايا الأرض والمسكن، فيعود هذا، في معظمه، إلى عناصر مهنية صرفة، تتعلق معظمها بأداء سلطاتنا المحلية، الواجهة الأولى للنضال والمطالبة بالتخطيط العادل، مثل عدم استثمار الطاقات والكفاءات، وعدم رصد السياسات والرد عليها في الوقت المناسب، وعدم التخطيط والمطالبة بسد احتياجات البلد وتوسيع مناطق النفوذ، عدم المشاركة في جلسات التخطيط، عدم فهم خطورة المخططات، عدم إشراك الجمهور، عدم تعبئة الجمهور للنضال والاحتجاج، وعدم استثمار اللجان الشعبية والتعاون معها ( مع أن ذلك عنصرا نضاليا وليس مهنيا )، بل تجاهلها وإنكار دورها، وحتى استعدائها أحيانا.
في ظل هذا الواقع، واقع محو الخيارات للمقموع، لم يقم التجمع على "إدراك طبيعة" المشروع فقط، بل على "تحديه"، على ما اعتاد عزمي بشارة على تسميته "توسيع الخيارات". والتحدي/ توسيع الخيارات، لا يتعلق بفهمك لمشروع القامع، بل لفهمك لمشروعية المقموع، بقرارك من يحدد لك شرعية نضالك، وفيما إذا كنت محتاجا لشهادة حسن سير وسلوك تؤدي بك مثلا، كرئيس سلطة محلية إلى المشاركة في احتفالات الاستقلال.
في انتظار الرضى الإسرائيلي، نحن نمترس نموذج "العربي الإسرائيلي"، المختلف مثلا عن العربي المصري والسوري والأردني، ذاك تقمعه فقط دبابة أو رصاصة حاضرة أمامه ليمتنع عن النضال، أما نحن فلا نحتاج لرادع يقف في طريقنا، لأن هنالك رادع مزروع في داخلنا. هنالك تضييق ذاتي للحيز النفسي، بموازاة التضييق الإسرائيلي للحيز العام، وربما نجحت إسرائيل في الأخير لأننا مكناها من الأول.
[email protected]
أضف تعليق