تتوزع وتتنوع دوافع المهتمين بحركة عضو اللجنة المركزية لحركة فتح السيد عزام الأحمد، الذي يبشر قدومه إلى غزة، بقرب تشكيل حكومة الوفاق الوطني، وتأخره عن الزيارة، سبباً للتشاؤم، ونهوض الكثير من الأسئلة. عزام الأحمد في قطاع غزة، يعني الكثير، للسائلين عن الوزارة، وللسائلين عن المصالحة، من حيث جديتها، ومصداقية التوجه نحو تحقيقها، أو تعطلها. حتى الآن الكثيرون لا يصدقون ما يسمعون، وقد تأصلت في نفوسهم، خيبات الأمل السابقة، وتكرست لديهم مشاعر اليأس والاحباط، قدر ما يرون بأعينهم، وما يلمسون بأيديهم من عقبات، تركتها السنوات السبع العجاف من الانقسام.
شبكات التواصل الاجتماعي، وأكثر منها مداولات الأشخاص، والجماعات تضجّ بالأسماء المرشّحة، والمستوزرون، أو من ينوبون عنهم، يكثرون من تقديم التشكيلات الوزارية، التي تتضمن أسماءهم، ولكن هناك، أيضاً، من يفعل ذلك، من أجل حرق أسماء بعينها. المشكلة الحقيقية هي فيمن يعتبرون أن حكومة الكفاءات المستقلة هي الفرصة الوحيدة المتاحة أمامهم للاستيزار، فالحكومات في ظروف مختلفة تشكلها الفصائل، من بين أعضائها، وهؤلاء لا يبحثون في الغالب عن ما ينتظرهم من مهمات وطنية صعبة، بقدر ما انهم يبحثون عن المغانم الشخصية والدوافع الخاصة، أو انهم يقيمون انفسهم فوق ما هم عليه. أصحاب الشأن، الذين عليهم أن يتخذوا القرار لديهم حسابات أخرى، وثمة آليات طويلة ومعقّدة لتشكيل وإعلان حكومة كهذه، فما هو معروف، أن القضية الفلسطينية قضية عربية بامتياز ودولية بامتياز، ومثل ذلك تشكيل حكومة عليها أن تجتاز العديد من حقول الألغام.
الناس العاديون، لا يتطلعون إلى وزارة، ولا يأبهون للأسماء، فبعضهم ينتظر من المصالحة تغيير واقع الحال، وتوسيع مجال الحريات، وفتح معبر رفح، والبعض الآخر، ينتظر فوق ذلك، معالجة أزمة الكهرباء والوقود، وفتح مجالات التوظيف، والعمل، والتجارة، وفي كل الحالات فإن سؤال الشك يتفوق على أسئلة القطع بالتفاؤل، أو التشاؤم.
في حقيقة الأمر، وبعد كل ما قيل ويقال عن أسباب ودوافع المتفائلين بنجاح المصالحة هذه المرة، وهي مختلفة عن سابقاتها، فإن تشكيل الحكومة وقد أصبح أمراً واقعياً، يشكل المؤشر الأول الملموس، الذي نفترض أنه يجيب مبدئياً عن كافة الأسئلة المتعلقة بالمصالحة.
غير أن الأمر، أبعد من ذلك بكثير، ذلك أن على المتفائلين والمتشائمين والمتشائلين، أن ينظروا للمصالحة باعتبارها عملية طويلة، شاقة تنتمي إلى القضايا والإنجازات الكبرى، وطالما هي كذلك فإن إتمامها يستغرق وقتاً طويلاً، لا أقلّ من الوقت الذي استغرقته عملية الانقسام وان تحقيقها يتطلب ثمناً كبيراً، طالما أنها تصب في المصلحة الوطنية وفي الاتجاه المضاد لمصالح إسرائيل وحساباتها.
هذا الاستنتاج ينقل المصالحة من عملية إدارية، وظرفية إلى عملية تنطوي على تحوّلات كبرى، تحوّلات إيجابية محفوفة بمخاطر كبيرة، تستحق من أجل إتمامها، تكتل واستنفار كل القوى والطاقات الخيرة، والملتزمة وطنياً. صحيح أن المصالحة، تمت بسبب اختناق برامج وتجارب طرفي الانقسام، وبالتالي هي بنت الضرورة، التي دفعت المتغيرات في المنطقة والإقليم، الطرفين نحو تحقيقها، ولكنها أيضاً، أي المصالحة، تشكل بداية مرحلة جديدة بدون أن تغلق مرحلة سابقة. هكذا تولد الظواهر التاريخية، وهكذا تولد المراحل التاريخية، فهي لا تعرف القطع، وإنما ينبت الجديد من بطن القديم، وكلما كبر المولود الجديد، تراجعت معالم المولود القديم، إلى أن تقترب نهاياته المحتومة.
يفهم السياسيون والدارسون الجديون معنى ذلك، رغم أنهم يظلون في حالة تساؤل للتأكد من أن قراءاتهم سليمة، وهكذا يفعل الزوار الأوروبيون، الذين تترتب على قراءتهم واستنتاجاتهم مواقف عملية وسياسات ذات أهمية.
في هذا السياق، علينا أن نراقب التحولات العميقة التالية، التي تؤشر إلى الاتجاه الذي تذهب إليه المصالحة، مع العلم أن هذه المصالحة قد تبدو في أول مراحلها على أنها تقاسم إداري بين طرفيها الأساسيين، في حين ي ذهب الأمل باتجاه الوحدة، باتجاه خلق كيمياء جديدة.
أول هذه المؤشرات، هو أن حركة حماس، الفرع الفلسطيني لجماعة الإخوان المسلمين العالمية، حين قررت الذهاب إلى المصالحة كانت قد قررت تغليب السياسي على الأيديولوجي، وتغليب الوطني على الأممي. كان نجاح حماس في السيطرة على القطاع، وإقامة نظامها فيه، وقدرتها على حمايته، كان ذلك النجاح الأبرز لجماعة الإخوان المسلمين، وكان البعض يعتبرها الذراع المقاومة والضاربة للجماعة، والبشارة الأولى الأهم لبدء مرحلة نجاح الإسلام السياسي في التقدم نحو مواقع السلطة والمسؤولين في أكثر من بلد عربي من بلدان الربيع. كان نجاح الحركة في غزة، وسط متغيرات الإقليم سبباً، للحديث المتفائل عن ربيع عربي وشتاء إسلامي. اختلف الوضع بعد ثورة الثلاثين من يونيو حزيران العام الماضي، لكن الآمال بعودة الإخوان لم تنته إلاّ قبل وقت قليل، بل ان البعض لا يزال يراهن على عودتهم أفضل مما كان عليه قبل الثورة الشعبية المصرية الأخيرة.
ثاني هذه المؤشرات، أن حركة حماس نشأت على فكرة أنها البديل لمنظمة التحرير الفلسطينية وبرنامجها العلماني، ولم تدرك مدى صعوبة وتكلفة ذلك إلاّ مؤخراً، وربما في انتظار تغير الظروف، وإلى ذلك الحين فإنها مضطرة للانخراط في المنظمة والمراهنة على إمكانية تغييرها من الداخل.
ثالث هذه المؤشرات، أن الاستهتار بمسألة الشرعية بكل مكوناتها أمر لا يمكن إلاّ أن يصطدم بحقائق من الصعب تجاوزها، فلقد فشلت حماس وحكومتها في أن تزاحم المنظمة والسلطة حول الشرعية، وبالتالي أدركت أن صناديق الاقتراع وحدها لا يمكن أن تحقق الشرعية، رغم أنها يمكن أن تكون جالبة حظ فقط، كما أدركت أن الصراع من خارج النظام السياسي، على النظام ذاته، مسألة تنطوي على تكاليف باهظة جداً، في حالة النجاح، وأكثر في حالة الفشل.
رابع هذه المؤشرات، أن الشعب الفلسطيني شعب متدين ومحافظ لكنه شعب وطني بامتياز، يريد دولة ذات سيادة ولها حدود، يريد هُويّة وطنية جامعة، يريد أن يتخلص من الاحتلال، وأن يتفاعل بشكل طبيعي مع محيطه، إلى أن يظل المواطن تحت الشبهة أينما حلّ أو رحل. يدرك الشعب أكثر من الكثير من نخبه وقياداته أن تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، مسألة تاريخية طويلة جداً ومعقدة، وأنه لا يستطيع الانتظار، إلى أن يتحقق الانتحار أو الانتصار.
أما خامس هذه المؤشرات، الادراك المتنامي والواسع والعميق لأهمية البعد الدولي بالنسبة للقضية الفلسطينية، وقضية الصراع، سواء من خلال ساحة الأمم المتحدة، أو الرأي العام العالمي، أو من خلال توازنات ومتغيرات النظام الدولي. وأخيراً لا بدّ أن القوى المعنية أدركت بعمق، أن مشاريعها وخياراتها الفصائلية محكوم عليها بالفشل، وأن الخيارات الأحادية والحصرية، مقاومة أو مفاوضة، لا تلبي متطلبات الفوز في الصراع.
هذه المؤشرات تدفع للاعتقاد بأن المصالحة بدءاً بتشكيل الحكومة، تنطوي على عملية شاقة تستحق أن يتجند الفلسطينيون من أجل الانتقال بها إلى مرحلة الوحدة والشراكة الحقيقية.
[email protected]
أضف تعليق