ليس غريباً أن يقرر المبعوث الأممي والعربي إلى سورية الأخضر الإبراهيمي، التنحي عن منصبه الحالي في ظل حرب استنزافية بين النظام السوري والمعارضة هناك، لا يبدو فيها أي أمل بإمكان تحقيق تسوية أو حل سياسي يقود إلى إنهاء هذا النزاع العنيف.
وسائل الإعلام المختلفة تناقلت خبر عزم الإبراهيمي على الاستقالة، في حين لم تؤكد الأمم المتحدة ذلك ولم تنف الخبر، وصدرت تصريحات لمسؤولين غربيين ومن داخل الأمم المتحدة، تشير إلى أن الإبراهيمي سيترك منصبه أواخر هذا الشهر.
ما يؤكد نية الاستقالة هو البحث الفعلي والجاري عن خليفة للإبراهيمي، إذ طرحت أسماء كثيرة ومتنوعة، ويجري دراستها بعمق حيث تم الكشف مؤخراً عن بعض الشخصيات الوازنة والمعروفة والمؤثرة على الساحة الدولية.
الإبراهيمي كان يفكر كل يوم في الاستقالة لعدة اعتبارات، أولها أنه تأكد تماماً بأنه يستحيل إيجاد حل سياسي للأزمة السورية، أقلها في الوقت المنظور، منطلقاً بذلك من فشل الجولتين الأولى والثانية من المؤتمر الدولي جنيف 2، وعدم تمكن المبعوث الأممي من استئناف المسار السياسي نحو جولة ثالثة.
إضافةً إلى ذلك، أن الأطراف الدولية غير مهيأة بعد للتوافق حول الأزمة السورية، وفيها أقطاب كثيرة لها آراء مختلفة حول هذه الأزمة، وعلى ما يبدو أن هناك مسألتين مهمتين بنظر الإبراهيمي جعلته يترجل عن منصبه، هما موضوع ترشح الرئيس بشار الأسد لولاية أخرى، والموضوع الأوكراني.
في الموضوع الأوكراني، كل المراقبين يعرفون تماماً أن حالة التسخين والتعبئة التي تشهدها روسيا من جهة والاتحاد الأوروبي وأميركا من جهة أخرى، هذه الحالة التي تزامنت مع استيلاء المعارضة الأوكرانية على السلطة بالقوة من الرئيس المعزول يانوكوفيتش، جعلت من الملف الأوكراني يطغى على جميع الملفات.
قبل أوكرانيا كان الموضوع السوري حاضرا بقوة ويتسيد كافة المشاهد، والأهم أن الأطراف الدولية لم تتوقف عن محاولات تأمين الحد من الأدنى من التوافق حول هذا الموضوع، لكن حين بدأت الأزمة الأوكرانية تتوسع، انصرف الغرب في التركيز عليها، خصوصاً وأن أوكرانيا على مرمى حجر من روسيا والاتحاد الأوروبي.
لذلك يعتقد الإبراهيمي أن دخول الملف الأوكراني بقوة على الساحة الدولية، حتماً انعكس على الأزمة السورية، لأن الأطراف الدولية المنخرطة في أزمة أوكرانيا، هي ذاتها نفس الأطراف المنخرطة في الشأن السوري، وهذا لا غضاضة في أنه سيعقد الوضع ويزيد من صعوبة إيجاد حل سياسي في سورية.
أما موضوع ترشح الرئيس بشار الأسد للانتخابات الرئاسية، فقد كان للإبراهيمي ومعه الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، موقف قوي بهذا الشأن، حيث اعتبر الاثنان أن ترشح الأسد سيعرقل مسار حل الأزمة ويعقد المساعي لحل النزاع سلمياً.
لهذه الأسباب سيضع الإبراهيمي استقالته قريباً بين يدي الأمين العام للأمم المتحدة، يسبقها اجتماع مع سفراء الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، حتى يطلعهم على آخر جولاته والنتائج التي جعلته يقدم استقالته، ولعل الرجل أصبح مقتنعاً بكل الأحوال أن دوره كوسيط لم تعد ترحب به الحكومة السورية.
قبل الإبراهيمي كان كوفي عنان الأمين العام السابق للأمم المتحدة، يقوم بدور الوسيط الأممي في سورية، وكانت مهمة عنان صعبة للغاية كما هي الآن مع الإبراهيمي، ما دفع الأول لتقديم استقالته، خصوصاً أنه لم يفلح في معالجة الملف السوري وبقيت مقررات مؤتمر جنيف 1 الذي دعا إليه وانعقد، حبراً على ورق.
حالياً يجري طرح أسماء كثيرة لخلافة الإبراهيمي والظفر بالمنصب الجديد، ومن بين هذه الأسماء خافيير سولانا الشخصية المعروفة التي استلمت سابقاً منصب أمين عام حلف الشمال الأطلسي "الناتو"، وبعدها المسؤول الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي.
أيضاً تتداول المواقع اسم كمال مرجان الدبلوماسي التونسي السابق في الأمم المتحدة، الذي تقلد أيضاً مناصب رفيعة في الدولة التونسية، بالإضافة إلى رئيس الوزراء الاسترالي السابق كيفن رود والبريطاني مايكل وليام المعروف جيداً لدى حكومته ولدى الأمم المتحدة.
وحقيقةً لن تكون مهمة اختيار وسيط دولي بالأمر الهين، لأنها بحاجة إلى موافقة كافة الأطراف، فهي بحاجة إلى موافقة الحكومة السورية وكذلك الحال بالنسبة للمعارضة، وبحاجة أيضاً إلى موافقة الأطراف الدولية المؤثرة بقوة على الملف السوري.
ثم إن المشكلة ليست بالإبراهيمي أبداً، إنما تتعدى هذا المنصب الذي يحاول أي شخص كان فيه إيجاد حالة من التوافق والتقريب بين وجهات النظر نحو تثبيت حل سياسي، وهذا أمر غير قائم حالياً بل مستبعد إلى حد كبير، لأن ما أفشل مهمة وجهود الإبراهيمي وعنان من قبله، هو الخلاف البائن والكبير بين أطراف النزاع وفي مقدمتها الأطراف الدولية.
حتى لو كان الشيطان هو الذي يتوسط بين الفرقاء السوريين على الأرض، فإن الأمر سينجح طالما التوافق كان قائماً بين الجميع، أما في ظل غياب كل أنواع التوافق فإن النزاع السوري سيبقى متواصلاً، الأمر الذي يعني أن كلمة السر المفقودة تكمن في موضوع "التوافق".
الآن ما يزيد الطين بلة، بروز إجراءات متسارعة تعمل على تأبيد النزاع وإطالة عمره، ذلك أن ترشح الرئيس الأسد مرةً أخرى للانتخابات، يقابلها الاعتراف الأميركي بالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية ممثلاً شرعياً للشعب السوري، وترقية صفة تمثيله في واشنطن إلى بعثة دبلوماسية، كل هذه وعوامل أخرى بالطبع، لا تبشر بالخير بل تصب الزيت على النار المشتعلة في الأساس.
هذا يعني أن مهمة أي مبعوث جديد لن تكون سهلة أبداً، ولن تتعلق بشخصه بقدر ما تتعلق بجميع أطراف النزاع، لكن ما تظهره المؤشرات الحالية، أن الأمور لا تسير نحو الحل وإنما لزيادة التعقيد، لأن الأطراف الدولية أساساً داخلة في حرب باردة بالوكالة عنوانها كل من أوكرانيا وسورية.
ولا يبدو أن هذه الأطراف ستتنازل أقله في الوقت القريب عن حربها الباردة، لأن ذلك سيعني فوز طرف على آخر، وانعكاس ذلك في أي من الملفات الحالية، ولذلك ستبقى جبهة سورية على حالها من النزاع المسلح، الذي يبدو أنه العامل الوحيد في تحديد مجريات الأمور.
أخيراً يمكن القول إن النزاع السوري لا يحتاج بالضرورة إلى وسيط، وإنما أمره –النزاع- متروك للأطراف الدولية، فهي وحدها من تقرر وقف الحرب ووحدها من تمده بالحطب اللازم حتى يبقى مستعراً وعلى أشده.
[email protected]
أضف تعليق