يعيش الإنسان حياته دون تفكير ماذا يكون غدا؟ وكيف يستعد له؟
رغم أن الواحد منا يرتب لغيره ماذا يفعل وكيف يستعد، بل ويحاسب الغير لماذا لم يحسن التدبير؟!
لو نظر كل إنسان حوله لاكتشف العجب العجاب.. سيكتشف أنه الوحيد بين الأحياء الذى تطول طفولته دون مبرر مقبول، فكيف يعتمد الإنسان على غيره أكثر من عشرين سنة بينما كل الكائنات لا تزيد فترة اعتمادها على غيرها عن شهور أو عام على أقصى تقدير، فهكذا أسراب النمل والنحل وغيرها تتجمع ويألف بعضها بعضا، ويعرف كل واحد فيها قدرته فلا ينفر من السرب، ولا يسعى لزعامة لا يقدر عليها، وجميع البحوث والدراسات حول (الحشرات / الدواجن / الأنعام / الدواب / الطير إلخ ) تخبرنا بأصول الاجتماع والتوافق والانتاج. فالجميع يعرف مكانه فى سربه، ويعرف واجبه بين السرب لا يتمرد عليه، ولا ينحرف عنه، فالجميع يفهم أن «الحد الأدنى» لواجبات «الكائن الحى» أن يسعى متوافقا مع غيره، متقنا دوره لا يعبأ إلا بواجبه.
(2)
أرأيت إلى النحل.. كيف يرافق وينافس بعضه بعضا فى أداء وظيفته التى لا تعود عليه بأكثر من قوت يومه وربما أقل.. لكنه لا يخالف السرب، ولا يستثقل مهمة البحث عن الرحيق فى الأزهار وإن تباعدت الحقول، وفى ظلمات الجبال وإن تزايدت الشقوق وتكاثرت الأعداء (من حيوانات أخرى)، فإذا أمعنت النظر وجدت طفولة النحل صغيرة سريعة، ثم يبدأ الكدح ملتزما بنظام سربه، ويتقن عمله اتقانا لا يعرف الكلل والملل، فترى أقراص الشمع يجاور بعضها بعضا متساوية الحجم، قد امتلأ كل قرص بـ«سداسيات» متساوية الأضلاع متراصة يلاصق بعضها بعضا وقد جعلت كل «سداسية» منها نفسها إناء للعسل المنتظر. ((وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ)).
(3)
هكذا النحل: يتخذ سكنه مما تتيحه الطبيعة بسيطا دون تكلف ((..مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتا..)) فإذا وجدت الأشجار متاحة فلا مانع من اتخاذ الأشجارسكنا دون تكلفة ((..وَمِنَ الشَّجَرِ..))، فإذا فكر الإنسان فى الانتفاع بك ــ أيها النحل ــ فسوف يصنع لك مأوى يأويك تحت سيطرته، ليستفيد من عملك ويتربح، ((..وَمِمَّا يَعْرِشُونَ)) أى ومما يصنعوه للإحاطة بإنتاجك، ومع ذلك فإن سكنت الجبال أو الشجر أو الخلايا المصنوعة، فلا تتوان فى إنجاز مهامك، وإخراج الشهد للإنسان طعاما ومتاعا وشفاء، وربما للاتجار والتربح... فلماذا لا نتعلم من النحل «الاجتماع» و«التنافس الحميد»، و«إنكار الذات»، و«صنع الخيرات»، وتقديمها لكل من يريد، فهل عجز الإنسان المعاصر أن يكون كالنحل، كما عجز ابن آدم الأول أن يوارى سوأة أخيه فعلمه الغراب. إن ابن آدم قد رأى درس الغراب مرة واحدة فتعلمها وأتقنها ولقنها للذرية جيلا بعد جيل، فلماذا لا نتعلم من النحل محاسن السلوك الجماعى؟!
(4)
لمثل هذا ضرب القرآن أكثر من مثل تعليما للناس، ومن أروع تلك الدروس ما ساقته سورة النحل عن عالم الحيوان قبل أن تشير إلى درس النحل. فاقرأ معى ((وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ* وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ..)) هكذا عطاء الأنعام، فماذا يعطى الإنسان لغيره؟ ثم ((وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَة..)) وتلك الدواب ركبها الإنسان ملايين السنين فلم تقتله ولم تهلكه ولم تعرض حياته للخطر، فهل تعلم الإنسان أن يكون اختراعه للركوب «اختراعا آمنا» غير ضار بالإنسان ولا بالبيئة؟! فالكائنات جميعها تعطى والإنسان يتعامى ويغافل نفسه فيشرد من سربه متكبرا عليه يدعى زعامة لا يصلح لها وهو أعجز المخلوقات، حيث يأخذ ولا يعطى، ويدمر ولا يعمر، ويقول ولا يفعل ثم يبالغ فى عجزه فيدعى أن العجز قدر إلهى أحاط به. وينسى الإنسان أن الرسول قد استعاذ من كل المعوقات فقال: «اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ، وَقَهْرِ الرِّجَالِ»
[email protected]
أضف تعليق