ان النضال الذي تخوضه القيادات العربية داخل اسرائيل يخلط بين النضال من اجل الحفاظ على الهوية القومية وبين النضال من اجل نيل المساواة والعيش الكريم, وهذا يتطلب إعادة نظر, لأن إحقاق المساواة لن يتم عن طريق "الشعارات الرنانة" والخطاب الملتهب وانما عن طريق خلق شراكات ونقاط تماس مع "الطرف الآخر"
ان الصراع الدائر بين انتمائنا للشعب العربي الفلسطيني من جهة وكوننا مواطنين في دولة اسرائيل من جهة اخرى هو احد الاسباب لتدني الانجازات الجماعية ومن ثم الى عدم قدرتنا على احقاق العدل والمساواة واكتفائنا بالمطالبة بهما. قد تختلف حدة هذا الصراع من شخص الى شخص ومن شريحة الى شريحة لكنه ما زال قضية غير محسومة لدى الكثير, فمنسوبا "القومية" و"المواطنة" يعلوان وينخفضان حسب الظروف والاحداث التي تمر بها المنطقة. عندما يقوم البوليس الاسرائيلي بإطلاق النار على المواطنين العرب العُزّل او عندما يقوم الجيش الاسرائيلي بقصف الاحياء في غزة يرتفع منسوب "القومية", وعندما نحاول الانخراط في سوق العمل او المبادرة الى اقامة مشاريع اقتصادية او التنافس على وظيفة حكومية يعلو منسوب "المواطنة". ان حالة الفلسطيني في داخل اسرائيل تكاد تشبه حالة الطفل الذي وُلد لوالدين لا يتوقفان عن الشجار فيما بينهما وتراه قابعا بالزاوية مُطبقا بيديه على اذنيه محتارا الى أي جانب يقف. للأسف الشديد, الدولة العبرية تريدنا "مواطنين صالحين" بغض النظر عن المعاناة التي يعانيها إخواننا في الضفة والقطاع وبالرغم من سياسة التمييز العنصرية التي تنتهجها ضدنا.
لفهم هذا الصراع بين الحاجتين- الحاجة للأمان المعيشي التي تتيحه "المواطنة" والحاجة الى الانتماء الذي تتيحه "الهوية القومية" استعنت بعالم النفس الأمريكي "أبراهام ماسلو" الذي قام بصياغة نظرية فريدة ومتميزة بهذا الصدد. حسب هذه النظرية، يفترض "ماسلو" أن الحاجات أو الدوافع الإنسانية تنتظم في نظام هرمي متصاعد من حيث الأولوية أو شدة التأثير، فعندما تشبع الحاجات الأكثر أولوية أو الأعظم حاجة وإلحاحاً فإن الحاجات التالية في التدرج الهرمي تبرز وتطلب الإشباع هي الأخرى. الأمان الشخصي والمعيشي يقعان في المرتبة الأولى في سلم "ماسلو" اما الحاجة الاجتماعية والحاجة لتحقيق الذات فتقعان بمراتب اقل أهمية. أي بعبارة أخرى إذا خُيّر الانسان بين "مصدر معيشته" او "انتمائه" الى مجموعة او حزب او تنظيم فأنه في أغلب الحالات يختار "مصدر المعيشة" لأنها حاجة مُلحّة أكثر وخصوصا اذا تواجد المجتمع في ضائقة اقتصادية.
ان النضال الذي تخوضه القيادة العربية داخل اسرائيل يخلط بين النضال من اجل الهوية والحفاظ على الشعلة القومية وبين النضال من اجل نيل المساواة والعيش الكريم, وهذا بحاجة الى إعادة نظر. هذا البندان يتصدران الأجندة الحزبية ويشكلان حجر الأساس لبرامج عملهم ويؤثران بشكل واضح على الخطاب السياسي شكلا ومضمونا. شعار الحفاظ على "الهوية القومية" وشعار "المساواة" هما شعاران مختلفان تماما وقد يكونا متضادان ولن يلتقيان إلا بعد حلول السلام العادل في المنطقة. تعزيز الانتماء القومي يتطلب خطابا ناريا يتفاعل مع العواطف والاحاسيس ويستحضر الماضي ويضع النكبة التي حلّت بالشعب الفلسطيني على الطاولة ويحاسب اسرائيل على الغبن التاريخي والاستيلاء على الأرض والممتلكات, أما تحقيق المساواة الفعلية بين العرب واليهود فيتطلب خطابا معتدلا وعقلانيا ومقنعا ومتسامحا وينظر الى المستقبل وينسى الماضي. أي مسار نتخذ, هذا يتعلق بنا لكن علينا ان نذكر ان النكبة اصبحت ابنة الستة والستين عاما وهنالك امكانية ان تصبح حدثا تاريخيا بعيدا بالنسبة للنشء الجديد الذي يقضي جُل وقتها على "الفيس بوك" و"الواطس آب". إذا كنا غير قادرين على "الاستثمار" بالنكبة كما فعل اليهود "بالكارثة" فلماذا لا نجعلها رمزا من رموزنا ونستمر في بناء مشروعنا القومي الداخلي.
هذا الوضع الذي يقوم به قادتنا السياسيين بالتحدث الينا من على منصات الكنيست ووسائل الاعلام العبرية غير معقول وعبثي ولا يتعدى اكثر من"فشة خلق" وليتهم يقومون بتوجيه خطاباتهم للوسط اليهودي. هنالك حاجة لتبني نهج براغماتي يعتمد على المهنية العالية ويجيد التفاوض والتكتيك مع القوى اليهودية واليسارية بغرض اقامة شراكات تصب في مصلحة المجتمع العربي في اسرائيل دون ان نحتاج الى التنازل عن الثوابت القومية. هذا لا يعني الانخراط في احزاب صهيونية او الائتلاف معها وانما ايجاد نقاط تماس وصيغة تعاون معها في نقاط عينية. حسب رأيي, هذا الأمر يتطلب قياسا مجددا "لدرجة حرارة" الخطاب السياسي السائد ومن ثم إعادة صياغته لكي يصل الى آذان صاغية. ترانا على المستوى الشخصي نحاول ان نحافظ على علاقة طيبة مع ابناء عمنا وان نثير لديهم الانطباع اننا مهنيون و"معتدلون" وندعوهم الى تناول الطعام على موائدنا لنستطيع من خلال العلاقات الشخصية ان نحسّن فرص قبولنا وانخراطنا وارتقائنا, فلماذا لا نسلك نفس النهج ونستعمل نفس التكتيك على المستوى الجماعي؟ أم ان المصلحة الشخصية تتغلب على المصلحة العامة كالعادة؟
من يتجاهل ميزان القوى القائم ويستمر بإطلاق الشعارات الرنانة لكل صوب سيعلن افلاسه السياسي عما قريب لأن هذا النهج عقيم وحالم ويقود الى دوائر مغلقة. هنالك من لم يسمعوا ان الاتحاد السوفياتي لم يعُد نصير الشعوب, وانه غير موجود اصلا؟! من ينتظر الحصول على المساواة التامة بعد ان تصبح دولة اسرائيل "دولة لكل مواطنيها" فعليه ان ينتظر طويلاً ومن الجائز ألا يحظى بذلك على عهد أحفاد أحفاده. الى متى سنظل نستعمل آليات غير مجدية لا تزيدنا الا احباطا؟ أما آن الأوان لنهج جديد يتعامل مع الواقع بشكل آخر؟
[email protected]
أضف تعليق