كانت المشيخة عندنا مرّة عليها القيمة، فمن يستحق لقب شيخ روحانيا كان أو دنيويّا قلةٌ قليلة لم تتعدّ في كل بلد واحدا، أو اثنين على الأكثر إذا حتمت ذلك وضعيّة القرية "الداحس غبرائيّة". وكان للشيخ مكانة خاصّة ويشكّل ضابطا لحياة القرية وبالذات في وجه جهل الجاهلين داخليّا وفي ردّ ضيم من المعتدين خارجيّا.

أمّا في أيامنا فكثر المشايخ ومن الصنفين، لدرجة إن أُلقي حجر للأعلى أصاب في مشواره عائدا لأن يلبي دعوةَ الحنين الجاذبيّ لأمه الأرض رأسَ شيخ، فقلّت هيبةُ المشيخة ولم يعد يحسِب لها أحد حسابا لا مكانة ولا احتراما وعلى الأقل باطنا، فظاهرا لا تخل الدنيا من ضعاف النفوس من النوع الثالث من العبيد حسب تصنيف لينين على ذمّة الراوي، إذ يُقال أنه قال ردّا على تذمّر وإحباط رفاقه العائدين من جولة على العبيد في مزارع الإقطاعيين:

العبيد ثلاثة ، الأول عبد يعرف أنه عبد ويؤمن أن هذا قدرَه وقال فيه بما معناه: أن هذا "الله يهونها عليه"! أمّا الثاني فعبد يعرف أنه عبد ويحاول أو يعمل على الانعتاق وفي هذا قال: هذا ثائر فاحتضنوه! أمّا الثالثُ فعبد يعرف أنه عبد ويتغنّى بحسنات سيّده وفي هذا قال: هذا نذل فاجتنبوه!. هذا الثالث هو من ترك للعبوديّة وللمشيخة في زماننا مكانةً وإن اختلفت معيارا وشكلا.

الحكاية تعود إلى زمن كان فيه في بلدنا شيخٌ روحاني واحد فقط توَّجَهُ أهلُ البلد رضاء واختيارا دون أن يرضى ودون أن يختار أن يكون، هو الشيخُ عبد الخالق، فكان يكفي أن تقول "الشيخ" ودون الحاجة لذكر اسمِه ليعرف القاصي والداني إن المقصود هو الشيخ عبد الخالق، فأصل الحكاية عندها أن الله أخذ وديعة له من أهل بلدنا، رجلا على قدّ الحال وأقل، شكلا وجوهرا، شكلا كان هذا بائنا أما جوهرا فعلى ذمّة الراوي.
وجريا على العادة والعقيدة وطلبا لكسب الأجر من عند الله، شارك أهل البلد في الجنازة بغض النظر عمّا كان ظاهرا من الفقيد وعلى الفقيد، اتباعا للمقولة: "كلُّنا على باب كريم والله أدرى ما في النفوس"، والمعنى أن الصلاح والطلاح لا يقررهما مظهرُ وحال الإنسان في الدنيا لا يُسرَ حاله أو عسرَها ولا جمالَ خلقته أو قبحَها، ومع هذا يظل للناس رأي في الناس وبما يعايشون، يعبرون عنه بأشكال شتّى قولا أو فعلا أو صمتا في الكثير من الأحيان مجاملة أو نفاقا أو كفّا للشر.

سار الركب نحو المقبرة أو الجبانة حسب اختلاف التسمية في قرانا، تتقدمه ثلة من رجال الدين يهلّلون باسم الله ونبيّه، يتبعهم الجثمان تتناوبه الأكتافُ كسبا للأجر، فإن أراد أحد أن يكسب أجرا إضافيّا عند الله يتقدّم ليبدّل أحد الحاملين النعشَ قائلا له : "آجِرْ"، وعلى الحامل أن يخلي للطالب مكانَه، ليدزَّ هذا كتفَه تحت التابوت طلبا للأجر، ويفعل المُخلي ذلك دون أي اعتراض، فالأجر ليس احتكارا ولا يستطيع أن يمنعه أحد عن آخر وإلا لاقى الإثم وضاع أجره هو.

كانت بقيّة الناس تسير خلف الجنازة والعبرة في ذلك أن: "كلُّنا إلى الموت وأنتم السابقون ونحن اللاحقون"، أمّا اليوم فترى الناسَ يتسابقون حشرا لأنفسهم بين المهللين والجنازة، بعضَهم اعتقادا أن مكانَه في المقدمة حتى في مثل هذه المواقف رغم العُرف ورغم المغزى الروحاني الكامنِ في شكل مرافقة الجنازة، خصوصا وأن الجاهَ الفارغ صار سيّدَ الساحة في أيامنا، والبعضَ يحشر نفسه هكذا جهلا في العادات الكريمة والمعنى الكامن.

حبّ بعض كثير منّا المنابرَ وأيا كانت حبٌّ جارف، ترى هذا البعضَ الكثيرَ وله على كل منبر مكانٌ بتكليف وبدون تكليف، ولم تخل بلدُنا كما بقيّة البلدان من هؤلاء وفي مقدّمتهم "أبو العز"، فما أن انتهت الصلاةُ وقراءةُ الفاتحة على روح الفقيد حتّى انبرى من الصف الأول أبو العز وكان قريبا عصبا ل"أبو علي" صاحبِنا، انبرى بعباءته الصفراءَ المقلّمةِ بخيوط ذهبيّة وحطّتِه "الرّوزة" الصفراء وعقالِه المقصّبِ المائل، "ممتشقا" ورقة من عبّه وكالعادة دون تكليف، انبرى قاصدا إطلاقَ مرثيّته المعادةِ مع تغيير الأسماء وبعضِ الفقرات وهو صاحبُ الصولات والجولات في مثل هذه المواقف، يدأب ألا تفوتَه صولة أو جولة، أحبّ ذلك الناس أم لم يحبّوا، ولم يحبوا.

كان الراحل كما قلنا على قدّ الحال جوهرا وشكلا، فشكلا وعلى ذمّة الراوي، كان من المقترضين كفافَه من بلاد السودان ولم يمنحْه الله، إذا كانت هذه التهمة كذلك ثابتةً عليه جلّ جلاله، من الجمال شيئا، وأما جوهرا فأعمالُه التي نسبها إليه وعلى ذمّتهم لم تشكلّ عائقا أمام مشاركتهم خشيةً من هول هذا الموقف واتقاءا لسوء الظن والله أعلم ما في السرائر وهو القائل "وبعض الظن إثم".


راح الناس بطبيعة الحال يراقبون "أبو العز" خصوصا وأنهم يعرفونه حقّ المعرفة ولا يعطون لا كلامَه الكثير في كلّ مناسبة ولا شكلَ ملبسه غيرَ الملائم البتّة لمكانته وزنا، ولا ينصتون إليه إلا على مضض ومجاملة، لدرجة كان إن قال كلاما مهمّا لا يأخذونه على محمل الجدّ.

وقف "مؤبنُنا" خلال تقدّمه، على بعد خطوات من المسجّى خالعا نعليه ومنزلا عقالَه عن رأسه معلقا إياه في ذراعه، وتقدم خطوات أخرى نحو التابوت و"تنحنح" مهيئا حنجرتَه. علا الهمسُ بين الناس، فمثلُ هذا التقليد عند العرب يُتّبع حين يكون المتوفى من عظام القوم الكِبار القلائل، وقلّما شاهدوه مؤخرا في جنازة، والفقيدُ من عامة الناس لا بل وأقلُّ على ذمّتهم.

أبو علي في بلدنا من الرجال المتدينين والذين لا يطيقون "العوجة" وله في الموضوع جولاتٌ كثيرة، يطلقها مسبّة من "قاع الدست" كلّما رأى أو سمع "عوجة" من أحد، خارقا كلّ المتعارف عليه، فالمصطلح عليه في بلدنا أن رجلَ الدين محتوم عليه تصرفٌ يليق بمكانته وعمره، فلا يستعمل مثلا في كلامه كلاما نابيا مهما كان، وقد اصطلح أهل بلدنا على تسمية المصطلحات النابية في اللغة "تشاقيع" وممنوع على الرجل المتدين أن يستعملها في أي حال، وإن خانه لسانُه واستعملها يُبعد عن العبادة لفترة عقابا، وهذا العقاب شديد بأبعاده وإسقاطاته.

لكن "أبو علي" من كثرة حبّه للاستقامة مثلما يفهمها طبعا، وشدةِ كرهه للنفاق والمجاملات الفارغة ترك الحابل على الغارب للسانه، وياما أُبعد من مجالس العبادة ثمنا لذلك، وفي الكثير من الأحيان أُبعد باعترافه هو بفعلها إذا حدث و"طلع خلقه" على حماره أو ثوره ودبّ في ظهره "تشقيعة" من إياهنّ.

عندما رأى "أبو علي" قريبَه "أبو العز" يخلع الحذاءَ والعقالَ، حاص يمنة ويسرة وتأفّف تأففا غيرَ عاديّ سمعه كل من حوله وأبعد، وبادره شيخٌ قريب منه مبتسما مستبقا الواقعةَ المتوقعة: "على مهلك أبو علي... روّق!". 

بسمل "مؤبننا" "أبو العزّ" وحوقل وراح يقرأ مرثيّة، طبعا كان نسخها من أحد الكتب، ربّما لم يحظ بها أبو زيد الهلالي وعنترة لشجاعتهما وحاتم الطائي لكرمه وابن ربيعة لجماله والسموؤل لوفائه، إلى أن وصل قائلا في الفقيد: "يا شمسَ الضّحى ويا بدرَ الدجى..."، فانحلت "براغي" رأس ولسان "أبو علي" كلّها، فانطلق لسانه ب"تشقيعة" من صاحبات المكانة في "قاع الدست" طالت أمَّ قريبه "أبو العز" في مكان له حرمةّ خاصّة في الأعراف المتداولة، فأطبق كل من في الجوار يدَه على فمه حابسا ضحكَه الآيلَ أن يتفجر، إجلالا للموقف، وراح "أبو علي" يجول في الوجوه حوله وكأنه يتفقّد أثر "تشقيعته" عليها.

لم يكن يعرف أحد إن كان "أبو علي" أطلق قذيفته وفي نيّته الاعترافُ بها أمام المشايخ في دار العبادة حين يحلّ موعد الصلاة، وتحمّلُ وزر الإبعاد خصوصا وإنْ لم يبادر للاعتراف وطلب المسامحة فلن يبادر أحد ممن سمعوه لمطالبته بذلك واثمه عند الله حينها إِثمان. لكن مفاجأةَ "أبو علي" والتي لم يحسب لها حسابا، كانت أنّ وقع نظره على "الشيخ" واقفا بين الجمع القريب منه ولا بدّ سمعه.

أن "تُشَقِّع" ويسمعك كل الناس نصف مصيبة ولكن أن تفعلها وعلى مسامع "الشيخ" فهذه مصيبة كبرى، ليس لأن الشيخ كان يملك مفاتيح العقاب والثواب وإنما في وجهه كان تُقى يثير الرهبة في الوجوه وفي القلوب، يرهبه الناس هكذا بدافع داخليّ دون أن يبدر منه مرّة عملا أو قولا يرهب، فيدأبون ألا يأتوا أمامه بنابية كلاما ولا بشائبة تصرّفا، حتى المدخنّون شيبا وشبابا لا يدخنون أمامه وإن رأوه عن بعد وفي يدهم سيجارة يلوذون أو يرمون سجائرهم رغم أن الدخّان ليس من الكبائر ولكنه مكروه عقيدة وعرفا.

كانت تزيّن محيا الشيخ بسمةٌ واسعة على سماع "تشقيعة" أبو علي خصوصا وأنه كان أطلقها منغّمة. أشاح "أبو علي" نظره عن وجه "الشيخ" في لمح البرق، وقبل أن تلتقي نظراتُه بنظرات الشيخ ظانّا أنه سمعه، طأطأ أبو علي وراح يدسّ نفسه بين المشيعين مبتعداعن الشيخ، لولا أن سمع صوتَه قائلا: "مْسامح أبو علي... مْسامح".

انفرجت أساريرُ "أبو علي" وعلت البسمات وجوهَ كل من في الجوار، لا وبل ترك البعض العنان لضحكه يعلو قهقهة، لتضيع بقيّة كلمات الرّاثي "أبو العز" دون أن يسمعها منهم أحد، وانتهت المراسم وانفضّ الجمع.

وما دام الشيخ سامح أبو علي و"على المحلّ" راح أبو عليّ غير متهيّب ليلة الجمعة إلى الصلاة والتي لم تبدأ قبل أن هدأ المصلّون من الضحك بعد أن سمعوا الحكاية.
سعيد نفاع - أواسط شباط 2014

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]